د. زكريا الشيخ يكتب.. بين يدي زيارة بابا الفاتيكان إلى الأردن وفلسطين المحتلة

حِبر الفاتيكان .. تحية احترام وترحاب، وأنت تنزل ضيفا عزيزا على أردن الهاشميين في عرين أبي الحسين جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله، وفي عاصمة الحشد والرباط، التي باركها الله وهي من أكناف بيت المقدس، أرض الأنبياء والرسل والشهداء والصديقين والمسجى على ترابها الطهور، آمنين، ثلة من خيرة الصحابة البررة، والمتربع على ثراها المبارك أقدس المقدسات الإسلامية والمسيحية، والتي يعيش فيها المسلمون والمسيحيون أخوة متفاهمين متحابين ومتآلفين، يصونون حقوق بعضهم بعضا ويتمتعون بحرية ممارسة الشعائر الدينية، لهم ما لنا وعليهم ما علينا.. لا يسعنا بهذه المناسبة إلا أن نحييك بأجمل تحية، فسلام الله عليك.. هي تحيتنا نلقيها على الناس كافة؛ فحللت أهلا ونزلت سهلا متمنين لك إقامة طيبة في حلك وترحالك، وعودة ميمونة بحفظ الله ورعايته.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64) ويقول سبحانه (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) (المائدة : 82).
أفكار نضعها اليوم بين يديك، وهي من باب "كلمة سواء" تجمعنا، مبنية على ما آمنا به بأنكم أقرب الناس إلينا نحن المسلمين.
فاسمح لنا كمجموعة إعلامية، وأنت تعتزم زيارة الدولة الصنيعة "الكيان الصهيوني" أن نضع بين يديك جزءً يسيرا من رؤيتنا ومفاهيمنا نحن أصحاب الأرض الأصليين (فلسطين التاريخية) جراء الظلم والإرهاب الذي عانيناه، وما زلنا، من قتلة الأنبياء والأطفال، الذين أسسوا كيانا صهيونيا عنصريا قائما على الإرهاب والدمار، ويستمد قوته وغطرسته وعنجهيته من دول كبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وللأسف، يبني مجده وتاريخه وحقوقه المزعومة على أساطير وأكاذيب وتلفيق وتزوير للكتب المقدسة والتاريخ والمنطق والحق والحقائق، وقد تمكن من اختراق مؤسسات دينية كبرى، كالفاتيكان وغيرها، واستدرج الملايين من مسيحيي الغرب لتبرير إجرامه وإرهابه سعيا لاستمرارية كيانه الصنيع والزائل قريبا والذي لا يمثل خطرا فقط على الأمة العربية، ولكنه بؤرة فساد وتهديد للأمن والسلم لكافة شعوب العالم بأسره.
إلا أننا قبل أن نبدأ، لا بد لنا من وقفة مع شخصكم بالتحديد بحكم منصبكم الديني الرفيع، وأرجو أن يتسع صدركم لكلامنا، من منطلق حقنا المهدور في إيصال صوتنا لكم في ظل تفرد اللوبي الصهيوني وتمكنه قسرا من أن يكون صوته عاليا ومسموعا في ردهات مؤسستكم الدينية الكبرى ألا وهي الفاتيكان، فمن حقنا أن نتكلم ونوصل صوتنا إليكم، ومن حقنا عليكم أن تستمعوا لنا ولو لبرهة:
ستغادر بلدنا الأردن الطاهر إلى بلدنا الآخر فلسطين التاريخية المحتلة، وقد سُحِقَ وظلم أصحابها الأصليون الشرعيون الفلسطينيون الذين قطنوها لآلاف السنين منذ القرن الـ 30 قبل الميلاد، وهم الكنعانيون الذين استضافوا سيدنا إبراهيم عليه السلام، النبي الكلداني الذي أمره الله عز وجل وزوجه وأبن أخيه لوطاً في القرن 21 قبل الميلاد بمغادرة مدينة "أور" العراقية والتوجه إلى أرض الكنعانيين، فلسطين.. هم الكنعانيون أهل فلسطين وأصحاب ترابها الشرعيين قبل أن تقوم لبني إسرائيل قائمة كعشيرة، فبنو إسرائيل وجدوا على هذه البسيطة بعد نبي الله يعقوب (إسرائيل) وأبنائه الإثني عشر والذين ولدوا في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ولم تنزل الديانة اليهودية إلا على سيدنا موسى عليه السلام والذي بعث في الفترة ما بين 1436 ق.م. و 1316 ق.م.
ستغادرنا إلى فلسطين السلبية ومقدساتها الإسلامية والمسيحية التي ترزح تحت نير وجبروت الاحتلال الصهيوني الجاثم على صدر أمتنا منذ عام 1948، والتي يقطـّع أوصالها الجدار العنصري العازل، وتستشري فيها المغتصبات (المستوطنات) كالسرطان، وتمارس فيها أعتى صنوف الظلم بتهويد مدينة القدس وتفريغ سكانها الأصليين الفلسطينيين منها وإحلال سكان يهود مكانهم جمعوهم ولملموهم من جنسيات العالم المختلفة.
ستلتقي مع عصابة الإرهاب الصهيونية التي زورت نصوص التوراة والإنجيل بغية شرعنة احتلالها لفلسطين التاريخية، وربط هذا الاحتلال بخرافات دينية زائفة ومزورة، حيث تمكنت من تكوين مجموعة دينية متطرفة من "المسيحيين المتصهينين" أو ما يطلق عليهم "المحافظون الجدد" الذين يتغلغلون كالسرطان في أهم الكيانات العالمية العظمى السياسية منها والدينية والإعلامية والاقتصادية، وتبوأوا أرفع مناصب الكون وعلى رأسها سدة البيت الأبيض والبنتاغون، فعاثوا في الأرض فسادا واحتلوا ودمروا العراق وأفغانستان بحجة ما يسمى بـ "محاربة الإرهاب" ودعموا الكيان الصهيوني بكل ما أوتوا من قوة لإيمانهم المزعوم والملفق للإسراع بوقوع ما يعتقدون أنه حرب فناء الكون (هرمجدون)، تمهيدا لعودة السيد المسيح عليه السلام وإقامة الدولة اليهودية الخالصة على أرض فلسطين التاريخية لتحقيق ما يسمونه الألفية السعيدة.. مستخدمين وسائل شتى من بينها إذكاء فتنة صراع الأديان والحضارات وإشعال الفتنة بين أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية لإفنائهما والإبقاء على أتباع الديانة اليهودية على وجه الكون.
ستقابلك تلك الزمرة من الإرهابيين الذين لا يكترثون ولا يلقون بالا لعنصريتهم المقيتة والمفضوحة بإعلان دولتهم الصنيعة بأنها "دولة يهودية خالصة"، تحقيقا لخزعبلاتهم الدينية المزورة حيث عزموا أمرهم على تفريغ فلسطيني 48 وطردهم إلى خارج حدود بلادهم لتصبح تلك الدولة الصنيعة هي عنوان العنصرية في عالم اليوم الذي يدعي الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان.
الحديث يطول وإرهاب الصهاينة لا يمكن أن تتسع له المجلدات مهما كبر حجمها وثقل وزنها، ولكن.. ونحن ننظر باستهجان واستنكار إلى زيارتكم إلى هذا الكيان الصهيوني الإرهابي الصنيع، القائم على أكذوبة دينية ملفقة كبرى، نأمل منك أن تتفهم عتبنا عليك.. ذلك انك أعلنت بأنك ستزور نصب ما يسمى بـ "المحرقة اليهودية" التي جعلت لها السطوةُ الصهيونية حصانة ليست لأديان الله وحقائقها، ولا لرسل الله وعصمتهم.. ففي الوقت الذي يجادل فيه البعض بحقائق الكتب السماوية يمنع عليهم الاقتراب ولو بسؤال عن حقيقة المحرقة اليهودية التي ستزور نصبها.
ومع ذلك فانك لم تجد من وقتك ساعات قليلة تعطيها لضحايا المحرقة الحقيقية الماثلة للعيان والمستمرة حتى الآن ضد سكان فلسطين الأصليين والشرعيين وخاصة في غزة.. الذين أحرقتهم "إسرائيل" وما زالت بالفسفور الأبيض، وغيره من الأسلحة المحرمة دولياً.. بعد أن احتلت ديارهم وشردتهم منها، ومثل عتبنا عليك في هذه، بل وأكثر من ذلك زيارتك لحائط البراق على اعتباره "حائط المبكى" وبالتأكيد لبسك القلنسوة اليهودية.
وفي ذلك انحياز للظالم والمحتل، لا نقبله منك ولك، فلعلك تجد سبباً يحول بينك وبين هذا الانحياز للذين هموا بقتل رسول المحبة عيسى بن مريم وأنت تمثل واحدة من اكبر كنائس أتباعه في العالم، كما نأمل أن تجد وقتا لزيارة غزة هاشم أرض "المحرقة الصهيونية الحقيقية".
ونود أن نضع بين يديك أنموذجا متواضعا لبعض الأرقام والإحصائيات التي قد تطلعك على حقيقة مضيفيك الصهاينة وما مارسوه خلال 22 يوما فقط من عدوانهم الأخير على قطاع غزة، والذين حرموا الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني، مسلمين ومسيحيين، من أن يحظوا ولو بقبلة من تراب موطنهم وهم ينظرون بحسرة من وراء الحدود وفي مخيمات الشتات إلى أضواء قراهم ومنازلهم التي قطنها الغاصبون عنوة:
مضيفوك، وخلال 22 يوما فقط من عدوانهم الأخير على قطاع غزة هاشم، قتلوا من أبناء الشعب الفلسطيني 1443 من بينهم 446 طفلا و 112 امرأة و 83 شيخا و 15 منقذ إسعاف و 828 شابا..
مضيفوك، أصابوا وجرحوا من أبناء الشعب الفلسطيني 5316 من بينهم 1828 طفلا و 787 امرأة و 251 شيخا و 22 منقذ إسعاف و 2428 شابا..
مضيفوك، دمروا ممتلكات خاصة من منازل ومصانع تجاوزت قيمتها 2 مليار و 743 مليون دولار.
مضيفوك، دمروا (45) مسجداً تدميراً كاملاً، و (55) مسجداً تدميراً جزئياًوعشرات المساجد الأخرى بدرجات متفاوتة، واستهدفوا المساجد أثناء وجود المصلين في داخلها أو على أبوابها، وقصفوا (5) مقابر تضم رفات الأموات، ثلاثة منها في غزة، وواحدة في خان يونس، وأخرى في الشمال، وتطايرت جثث الأموات جراء القصف الهمجي. وطال الدمار تجريف أراض مزروعة، كما استهدفوا إذاعة القرآن الكريم بصاروخ في غزة ودمروها تماما.
لن نقول لك ماذا فعل مضيفوك بأمتنا منذ عام 1948 بل قبله وحتى يومنا، ولن نطلعك على مخططاتهم الإرهابية التي يدبرون لها في سواد لياليهم المظلمة، فأنت بالتأكيد على دراية بها خاصة وأن الفاتيكان ليس ببعيد عن تدخلاتهم وحشر أنوفهم.. وسنقتصر فقط على 22 يوما سيدي من تاريخ إرهابهم..
فهل بعد ذلك من قول على مدى إرهابهم وإجرامهم؟ وهل تستحق هذه العصابات الدموية زيارتك المقدسة وهي تحتل وطنا كان يوما يسمى فلسطين؟
المسلمون والمسيحيون الفلسطينيون يتعرضون لأكبر عملية إبادة جماعية وطرد من أراضيهم في القدس وأراضي 48 بغية تفريغ تلك المناطق من أصحاب الأرض الشرعيين الفلسطينيين وإنفراد اليهود بأرض فلسطين، كما أن إعلان مطالبة العالم الاعتراف بـ "يهودية" دولة الكيان الصهيوني، يمثل قمة العنصرية والتمرد على الشرعية الدولية، بالإضافة إلى استشراء "المغتصبات" أو ما يسمى بالمستوطنات على امتداد الأرض الفلسطينية المحتلة.
إن قضية "يهودية الدولة الصهيونية" وتهويد القدس والجدار العنصري العازل ومواصلة الاستيطان، والتهديدات التي تتعرض لها المقدسات الإسلامية والمسيحية وخاصة الحفريات التي تستهدف وجود المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، والحواجز الصهيونية المنتشرة بالمئات في الأراضي الفلسطينية والتي تحرم ملايين المواطنين الفلسطينيين من أدنى حقوقهم الإنسانية بما فيها حقهم في تلقى العلاج وغيرها، والسجناء من الرجال والنساء في السجون الصهيونية، وغيرها العشرات من القضايا الهامة، هي أمور جوهرية تسعى "إسرائيل" إلى إضفاء شرعية عليها وحشد تأييد دولي حولها.
وإننا نحذر من استغلال الصهاينة لزيارتكم إليهم لتمرير مخططاتهم تلك والحصول على صبغة شرعية مسيحية وخاصة على معالم التهويد والمستوطنات وحفريات الأقصى التي تستهدف تدميره.
فهل يمكن لبابا الفاتيكان، المرجع المسيحي العالمي الأكثر تأثيرا أن يقف وقفة حق لرفع الظلم عن المظلومين وإعادة الحقوق لأصحابها الشرعيين، وهي مبادئ تنادي بها الديانة الإسلامية والمسيحية على حد سواء.
لقد أعلنت أن زيارتكم هي دينية وحج رسولي، ونحن نحترم ونتفهم ذلك.. ولكن مقامكم ومكانتكم الدينية المرموقة تملي عليكم قول كلمة الحق.