منطق متهافت

من أشد الأمراض فتكاً في جسم الأمّة، ذلك الانحراف الفطري الذي يخل بسوية الوجود الآدمي على الأرض وفي ممارسته للحياة الطبيعية بين أهله وذويه وعشيرته وشعبه، المتمثل بعدم إدراك قيمة حب الوطن، ويتلبس بلبوس ديني أو قومية أو الاختباء خلف بعض المقولات المتناقضة التي لا يستحي بعضهم من المجاهرة بها أو خوض جدالات عقيمة ترفع ضغط الدم وتجلب الأمراض من كل حدب وصوب.
كنت أعتقد أن المسألة من البداهة التي لا تحتاج إلى برهنة أو استدلال، وكنت أعتقد أيضاً أن الحديث في هذا الشأن يتأتى من باب التعزيز، وتصحيح المسارات ورفع سوية العطاء وامتلاك القدرة على المراجعة، ولكني أكتشف اليوم وبمنتهى المرارة أن المسألة أخطر بكثير مما يتوقع كل أصحاب المنطق، وكل أهل الثقافة والفكر، وتبين ذلك من خلال الحوارات الدائرة على مواقع التواصل الاجتماعي، بمناسبة ذكرى الاستقلال.
ظهر ذلك بوضوح من عبارات تستنكر حب الأوطان، وطرح مجموعة أسئلة استنكارية؛ هل يعرف الدين الوطن، وما هي حدود الوطن، وهل تريدنا أن نحب الوطن الذي رسمه سايكس- بيكو؟ ومنهم من وصف ذلك بالجاهلية، وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك من خلال الكرم في إطلاق العنان لمشاعره التي تفيض بكل مستويات الحقد والكره، والنزول إلى مستويات تنحط كثيراً عن الحدود الآدمية والإنسانية التي لا تعرفها كل شعوب العالم.
لا أدري هل هذا منحصر في رأي هؤلاء بالأردن لوحدها بوصفها صنيعة سايكس- بيكو، أم يتعدى ذلك إلى كل أقطار العالم العربي والإسلامي؟ فهل هؤلاء يستنكرون على الفلسطينيين حب فلسطين والتغني بها وحب القدس و رام الله؟ وهل يتم الاستنكار على أهل العراق أن يحبوا عراقهم وعاصمتها وهواءها، وأهل باكستان وبنغلادش والصومال بالطريقة نفسها؟ وهل يمكن الاستنكار على أهل الكويت والإمارات العربية أن يحبوا بلدهم ويتغنوا بها؟ ويبكوا شوقاً إلى شواطئها عند الغياب وفي حالة الغربة.
وهل الاحتفال بالاستقلال والمناسبات الوطنية المتعددة يتعارض مع حب الوطن كله، وحب العالم الإسلامي، وحب الكرة الأرضية، وحب المجرّة ودرب التبانة، وكل ما فيها من شموس وكواكب؟
هل من الممكن إذا وجد بعض الفاسدين، وبعض الحيتان سطوا على المال العام أن يمنع ذلك من حب الأردن وحب عمان واربد؟ وهل وجود بعض الانحرافات والأخطاء أو حتى الجرائم السياسية يحول دون امتلاك مشاعر فطرية بحب الوطن والأرض والجبال والأنهار؟ فأي منطق متهافت يتم نشره وتعميمه، ولماذا لا يكون الاحتفال بعيد الاستقلال مناسبة للوقوف على الأخطاء وامتلاك الجرأة في التأشير على مواطن الخلل وامتلاك القدرة على المحاسبة.
إن حب الأردن جزء لا يتجزأ من حب بلاد الشام، وجزء لا يتجزأ من حب بلاد العرب كلها من الشام لبغداد، ومن صنعاء لتطوان، ومن يجد في هذا الحب تناقضاً، فهو يعيش اختلاطاً واهماً، وانفصاماً حاداً لا يرجى برؤه، ومرضاً قاتلاً يطعن في شرعية وجوده على أي أرض وفي كل قطر عربي أو اسلامي، فهذه مسألة يجب أن تكون خارج دائرة الجدل وبعيدة عن المساومة، ومن تضعضع حبه لبلده، لا يستحق العيش فيه لحظة، لأن ذلك ليس مرتبطاً بسلطة أو حكم أو أشخاص أو أصحاب نفوذ، فالوطن أو الدولة لا يمكن اختزاله بحكومة عادلة أو ظالمة، ولا يختزل بأشخاص سواء قدموا لدولتهم ام لم يقدموا، فضلاً عن اختزال الوطن بمجموعة فاسدين أو مجموعة لصوص، ولا بمجموعة أتقياء أنقياء بررة.
ينبغي العمل على إيجاد المناهج التي تربي حب الوطن وتنميته في نفوس الناشئة، وتعلمهم المعنى الحقيقي للانتماء الوطني الذي يعني التفوق واتقان التخصص وخدمة الوطن، والحرص على أمنه واستقراره، ونظافته، ويجب تشديد العقوبة على كل إساءة للوطن وتشديد العقوبة على كل أنواع الاعتداء على المال العام، وعلى كل من يتلفظ كلمة كراهية، وكل من يلقي ورقة أو عقب سيجارة على الأرض وعلى كل من لا تبدو عليه معالم احترام النظام العام، والالتزام بمقتضيات ذلك روحاً وشكلاً.
لا يدري هؤلاء أن أهم سبب للفساد يتمثل في فقدان حب الوطن، ونستطيع أن نفسر كل مظاهر الخلل، والتخريب والسطو على المال العام، إذ يتأتى ذلك من فقدان الانتماء الحقيقي للوطن ومن خلال الخلل في التدين والفهم، واختلال الفطرة السوية واعتلال الذوق والأدب.
(الدستور 2014-05-28)