«أصل الأنواع» لداروين: أغضب الجميع لكن التاريخ أنصفه ولو جزئيّاً

لو قلبنا تاريخ العلم والفكر الإنساني كله، لكان من الصعب العثور على كتاب أثار من اللغط والسجال، ولا يزال يثير إلى اليوم، مقدار ما أثار ذلك الكتاب الذي نشر في لندن في عام 1859 في عنوان «حول أصل الأنواع والانتخاب الطبيعي أو بقاء الأجناس المتميزة في الصراع حول الحياة»، وهو الكتاب نفسه الذي عرفه السلف باسمه المختصر «أصل الأنواع»، وأثار في الثقافة والحياة العربيتين اللغط نفسه الذي أثاره في الخارج لتدور حوله سجالات ونقاشات صاخبة قبل أن ينتهي به الأمر ليعتبر أساساً من أسس الحداثة الفكرية الطليعية. فهذا الكتاب الذي نشر في طبعته الأولى يوم صدر للمرة الأولى، في 1200 نسخة، كان بيعها عسير التصور أول الأمر حتى في رأي ناشري الكتاب وأصحابه، لكن تلك النسخ سرعان ما نفدت جميعها في اليوم الأول، ترجم إلى معظم اللغات الحية في العالم خلال السنوات التالية. واللافت في الأمر هنا أنه في كل مرة كان يترجم وينشر كانت عاصفة عاتية تثور في وجهه وفي وجه مترجميه. لكنه كان يعرف كيف يفرض حضوره. وذلك في كل بساطة لأنه إذ كان يعامل أول الأمر بغضب ورفض وكأنه يتضمن نظرية صارمة في المجال العلمي، كان البعض يرى أنها تتنافى مع التعاليم الدينية، لا سيما من ناحية ما جاء ليفترضه من الأصل «غير المقدس» للكائن البشري، وسرعان ما كان الناس يدركون أن ما يتضمنه، في الحقيقة، ليس أكثر من فرضية علمية يطرحها المؤلف للنقاش. والأدهى من هذا، أنه فيما كان كثر يعتبرون ما في الكتاب جديداً ثورياً، سرعان ما كان النقاد والباحثون يؤكدون أن النظرية الفرضية الأساسية التي يأتي بها الكتاب، ليست جديدة: كان العلماء ينادون بها منذ أقدم عصور الفكر الإنساني، بل ان التراث العربي عرفها - نقلاً عن اليونان، لا سيما عما جاء في حيثيات تأكيدات أفلاطونية، بل حتى في نظريات سابقة على السقراطية - وفي شيء من التفاصيل، في بعض رسائل إخوان الصفاء، وحين عرفها ذلك التراث على هذا النحو، لم تثر في وجهها الأعاصير.
> مؤلف الكتاب هو، كما نعرف، تشارلز داروين الذي يعتبر، بفضل هذا الكتاب، واحداً من أكبر العلماء التنويريين الذين عرفتهم الإنسانية في تاريخها. ومع هذا علينا ألا ننسى أبداً أن داروين نفسه حين انتهى من صوغ فرضيته قال بكل وضوح: «إنني في حقيقة الأمر لا أجد نفسي قادراً بأية حال من الأحوال على التظاهر بأنني أستطيع إلقاء أي ضوء على هذا الموضوع العويص. إن لغز بداية الأشياء جميعها غير قابل للحل من قبلنا. وأنا كواحد من الناس، إزاء هذا علي أن أرضى بالبقاء لا أدرياً». ويعني داروين بهذا أن من الأفضل له، هنا، بدلاً من الزعم أنه قادر على تأكيد ما يخص مجال الدين والإيمان علمياً، من الأفضل له أن يعلن لا أدريته، أي عجز العقل العلمي عن الغوص في التفسير حتى آخره، وبالتالي اعترافه الصريح بذلك العجز ليس خوفاً من الآخرين، بل هو عن قناعة تفرضها حدود المعرفة العلمية، كما سيؤكد دارسو حياة داروين وكتاباته بعد ذلك. ولا شك في أن من الواضح هنا أن داروين قد فضل، في النهاية، العودة إلى الدين، بدلاً من المنافحة ضد معتقداته. لكن المؤسف أن كل الذين هاجموا داروين ونظريته - لا سيما عندنا في الفكر العربي بعدما ترجم الكتاب ونشر عند بدايات القرن العشرين - تجاهلوا هذا الاستنتاج الذي كان فيه داروين منسجماً مع نفسه.
> والحال أن المهم بالنسبة إلى داروين الذي وضع كتابه بعد ملاحظات وبحوث ورحلات وقراءات دامت أكثر من عشرين سنة، لم يكن النتيجة العلمية التي يمكن توخيها من الكتاب، بل إيجاد السبل للإجابة على سؤال لطالما حير العلماء، الذين على رغم إيمانهم - عقلانياً - بأن أشكال الحياة المعقدة تدين بوجودها إلى القوانين الطبيعية، وقفوا دائماً - من أرسطو ولوقريطس إلى غوته ولامارك وسبنسر - حائرين أمام الحلقة المفقودة التي كانوا يرون وجودها في عملية التطور المعقدة التي تمت عبر ملايين السنين، بين أرقى الحيوانات والإنسان البدائي. وما حاول داروين طرحه - والإجابة عليه افتراضياً - كان إمكان جمع الشواهد التي لا يمكن دحضها علمياً حول مسألة «الانتخاب الطبيعي» التي هي عماد الفرضية ككل.
> يشرح تشارلز داروين العناصر الرئيسية لنظريته في القسم الأول من الكتاب، عبر أربعة فصول. وهو في الفصول الأربعة التالية لها، نجده يناقش الاعتراضات التي يمكن أن تثور ضد هذه النظرية. أما في الأقسام الباقية من الكتاب، فإنه يسهب في الحديث عن الجيولوجيا والتوزع الجغرافي للنباتات والحيوانات والحقائق ذات الصلة الوثيقة بالتصنيف والمورفولوجيا وعلم الأجنة.
> أما الأساس الذي يبني داروين عليه تلك الفرضية، فيتعلق برصد التغيرات التي طرأت على الحيوانات والنباتات الأليفة، لا سيما منها تلك التي يتحكم بها الإنسان. ويقارن داروين ذلك، أي الفروقات في الأنواع الناتجة عن «الانتخاب الصناعي»، بالتغيرات الحاصلة في الطبيعة من دون تدخل الإنسان، أي الناتجة عن «الانتخاب الطبيعي» ليخلص إلى أنه «حيثما هناك حياة، ثمة تغير وتطور مستمران» ناتجان أساساً من الصراع من أجل البقاء، حيث إن «الانتخاب الطبيعي يتفحص كل يوم وكل ساعة وفي كل أنحاء العالم، أبسط التغيرات رافضاً السيئ منها ومضيفاً الجيد إليها، عاملاً بصمت ومن دون إحساس (...) على تحسين كل خلية حية» كما يقول داروين الذي يضيف أننا في الحياة اليومية «لا نلاحظ أياً من هذه التغيرات البطيئة أثناء عملها، بل ستلاحظ حين تحفرها يد الزمن على مر العصور».
> على رغم أن داروين حرص على إبقاء نظريته/ الفرضية، خارج إطار الحياة المتواصلة للجنس البشري، مراعاة منه لمواقف الكنيسة الثابتة في هذا المجال، والمؤكدة الأصل الإلهي للإنسان، فإن الكنيسة سارعت إلى مهاجمة الكتاب معتبرة إياه «خطراً على الدين». غير أن الكنيسة، ولأن ليس ثمة محاكم تفتيش في بريطانيا في ذلك العصر، لم تكن قادرة على إحراق داروين. كان جل ما بُذل ضده أن سُلّم وكتابه إلى عناية كلية الشريعة والجامعة والمحاضرين والمتحف، ما جعل المؤلف يقول رداً على هذا: «إنهم بالتأكيد لن يحرقوني، لأن ليس ثمة قانون يمكنهم من ذلك، لكنهم سيجهزون الحطب، وعود الثقاب، ويطلبون من الوحوش السود أن تقبض علي».
> مهما يكن من أمر صراع داروين مع الكنيسة، فلا بد من أن نكرر هنا أن كلّ ما في «أصل الأنواع» لم يكن في الأساس أكثر من فرضية علمية وبراهين عليها. ولكن كان من الواضح أن الكتاب يشكل ثورة في عالم هذا النوع من البحث العلمي. والجدير ذكره هنا أن داروين إنما بنى الفرضية متأثراً، بين عناصر أخرى، بنظرية القس مالتوس حول التزايد السكاني، وهي نظرية اعتمد عليها النازيون لاحقاً في رسم نسختهم الخاصة من نظرية «الانتخاب الطبيعي» و «البقاء للأقوى»، كما اعتمدوا على كتاب داروين في المجال نفسه. ولكنه بالتأكيد لا يمكن اعتبار داروين نفسه مسؤولاً عن ذلك.
> ولد تشارلز داروين عام 1809 في شروسبري (بريطانيا العظمى) ومات عام 1882 في داون. وهو بدأ حياته العلمية عبر رحلات عدة قام بها، وكتب عنها لاحقاً، في الكثير من مناطق العالم، لا سيما في الجزر الأطلسية، حيث رصد حياة النباتات والحيوانات وتقلبات المناخ، ودور هذا الأخير في إحداث التغيرات الجسمانية في الأنواع. وهو قرأ كتب الأقدمين وسحرته دائماً فكرة جاءت فيها حول تولّد الأنواع من بعضها بعضاً، بدءاً من الجماد وصولاً إلى الأنواع الحية. ولقد كرس ملاحظاته العلمية ودراساته لإيجاد صياغة علمية تضم تلك الفكرة القائمة على تغيّر الكائنات دائماً للوصول إلى حال أرقى من حالها السابقة.
(الحياة 2014-05-31)