الصغار والمعارك الصغيرة

تسلق الصغار لقيادة المركبة في غفلة من الكبار تتغير المسارات والنهايات، وتُقاد الأمة إلى معارك صغيرة، ويتم اشغالها بسفاسف الأمور وتوافهها، وتنصرف عن عظائم الأمور، وتختلّ موازين الأولويات، لدى العقل الجمعي بفعل الواقع المفروض عليها نتيجة هذا الانقلاب الهرمي في سلم الاهتمامات.
هذه المشكلة تظهر في السياسة كما تظهر في الإعلام، وكل مجالات العمل والإدارة، وتظهر في الدول كما تظهر في الأحزاب والجماعات على حد سواء، وتتشابه الأمراض السارية في المجتمع بين كل المكونات وفي كل القطاعات، وتعظم المصيبة وتشتد عندما يفرض الصغير إيقاعه على كل «الجوقة» مهما كبرت وعظمت، ومهما كان فيها من الكبار وأصحاب الخبرة ومن يدرك الحقيقة ويقف على حقيقة الخلل، ولذلك لا عجب أن ترى جملاً كبيراً يقوده حيوان صغير، ضئيل الجسم والعقل.
لقد عبر المتنبي عن هذه الحقيقة المرّة بقوله :
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
ولذلك عندما يتسوَّد الصغار تجدهم يجرون أتباعهم إلى معارك صغيرة، وليس هناك اشد مرارة على النفس من رؤية الانشغال البعيد عن حقيقة المواجهة الكبرى في معركة الوجود، ومواجهة التحديات العظام في البحث عن مخارج الأزمة، وتخطي الحواجز والقيود التي يفرضها الخصوم بفعل ما يملكون من مكر وتخطيط ودهاء وأدوات و وسائل، ومع ذلك يتم الإصرار على الدوران في حدود الذات ومكتسباتها، وشخصنة المعارك والمواجهات على طريقة الزعماء العرب في معركة (1967) عندما نقلوا الإعلام للحديث عن مخططات العدو للنيل من الأنظمة الثورية العربية التقدمية، وإقصاء الشخصيات العبقرية الفذة، التي جاد بها الزمن ولا يجود بمثلها على مرّ التاريخ، لذلك فلتذهب الأرض والجيوش والمقدرات والمقدسات، وتبقى الزعامات الخالدة.
تتكرر الصورة في المشهد المعاصر، عندما تأتي ثورة الربيع العربي، وتنتفض الشعوب، وينتقل الشباب العربي إلى مرحلة الفعل في الإصلاح والتغيير ليكونوا على وشك صناعة فجر الحرية الذي يهيء لنهوض عربي كبير، يتجاوز العرب من خلاله حالة التخلف المزري، وينطلقوا نحو التقدم والإنجاز، وليتجاوزوا حالة التبعية والذيلية، ويعيدوا سيرة العرب في الوصول إلى قمرة القيادة التي تقود القطار الحضاري الإنساني، ولكن بعد مرور ثلاث سنوات ونيف، يتم العصف بكل منجزات الشعوب وتضحياتها، وتتم العودة بها القهقرى إلى قاع التردّي وصحراء الديكتاتورية والإستبداد.
ورغم كل هذا التردّي المزري و الانكسار الكبير، ما زال هناك من يعيش حالة الانكار النفسي العجيب، ويبقى هناك من يملك القدرة على اقناع نفسه بأنه أحسن حال وأفضل مستوى، وفي غاية القوة والتماسك، ويملك هؤلاء قدرة عجيبة على الهروب من مستحقات المراجعة وعواقب التقويم الجريء، من خلال جرِّ الناس إلى معارك وهمية، تتعالى فيها صيحات المؤامرة الكبرى على أشخاصهم ومواقعهم ومكاسبهم، فعن أي مواقع يتحدثون، وعن أي مكاسب ينافحون، وما هدف المؤامرة وما مضمونها، وعلى ماذا تتم المنافسة؟! وتكمن المشكلة في بعض الأتباع الذين تنطلي عليهم الخدع والأضاليل، من خلال فعل بعض الإعلاميين الصغار الذين يشكلون المعركة ويرسمون معالم المواجهة البائسة التي ينشغل بها القوم وتنحصر فيها الخصومة والضوضاء، ويتم صرف العقول عن مناقشة الأفكار و الانشغال بالمراجعة والتقويم الضروري الهادف.
(الدستور 2014-06-01)