الصورة الخافية عن كثيرين

بعد حصار العراق وذهابنا لمؤتمر مدريد، جرت محاولة "أميركية" لفرض رقابة تقرب من الحصار على ميناء العقبة ولإقامة نقطة تفتيش تابعه لها على حدودنا مع العراق, بحجة أن غالبية واردات العراق تأتي عبر ميناء العقبة، وهو ما رفضه الأردنيون بشدة فتراجع لحدود تفتيش شركة غربية للسفن قبل دخولها مياهنا الإقليمية.
وبعد توقيعنا لاتفاقية وادي عربة عرضت علينا إسرائيل استعمال ميناء حيفا بدل ميناء العقبة لوارداتنا بطريقة توحي بأن العبور لحيفا "هدية" تقدم لنا, وبدأ ترويج حكومتنا للفكرة بذريعة أن الكلفة أقل، فأطلقت حملة رفض تستشرف ما يخطط لنا بدليل ما يحدث للعراق, مبينة أن السعر المخفض فخ لتحويل مستورداتنا عن ميناء العقبة كخطوة على طريق قتل حركة التجارة فيه.
وبعد ربط شريان حياتنا بحيفا ستتضاعف الكلف, والأهم أن مستورداتنا الإستراتيجية من غذاء ودواء وحتى تكنولوجيا وتسليح, ستصبح بيد إسرائيل مما يسهل حصارنا نحن أيضا لحظة تشاء إسرائيل, وقبله يتحقق إفقارنا وإبقاؤنا في حالة متخلفة! وأمكن إسقاط المخطط شعبيا, وساعد على ذلك كون تجارنا وطنيين, والقلة الطارئة مؤخرا هم "حكام تاجروا أو تجار حكموا"!
واستغرق إحياء المخطط سنوات، ولكن بطريق أخرى، فقد بدأ هذه المرة باقتطاع منطقة العقبة بكاملها عام 2001 لتدار بما أسمي "سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة" لتصبح تلك المنطقة دولة داخل دولة.
وكشف حقيقة وضعها ذاك خبر رسمي نشر في عهد حكومة علي أبو الراغب عن عقد اتفاقية بين الحكومة الأردنية "وسلطة إقليم العقبة"! والضجة التي أثارها الخبر أدى لزعم أنه خطأ صياغة دون أن يفند المضمون! ولعل تسمية "سلطة" تلخص الوضع, ويرجح أن الإيحاء بها جرى ممن اختلقوا السلطة الفلسطينية.. فتوالي الأحداث التي سنعرض لها يدل عن نسق تصعب نسبته لصدف.
وبريق الإثراء السريع الذي أعمي أبصار مسؤولينا بدا واضحا منذ البداية، فأول ما افتتح به مشروع فصل إقليم العقبة بيع أراضيها في إعلانات في الخارج شعارها "حول الرمال لذهب".
وفي العام 2008 بيع الميناء الوحيد للمملكة لشركة "المعبر" الإماراتية ومعه 3200 دونم أرض بواجهة بحرية 2 كلم, مضافا له التزام الأردن برسوم التسجيل والفرز ونقل الملكية وتوفير البنية التحتية كاملة للأرض المبيعة, إضافة لتعهد الجانب الأردني بكلفة إزالة كل منشآت الميناء على حسابها.. وكل هذا بيع بنصف مليار دولار فقط بذريعة تسديد جزء من مديونية الأردن. ولكن المديونية لم تنخفض، بل بدأت مسيرة تضاعفها السرطاني. واقترض الأردن حينها 125 مليون "دينار" لإزالة منشآت الميناء.
ولم يشرع بالإزالة, ولكن هذا القرض وحده راكم بين أصله وفوائده ليومنا هذا ربع مليار دولار. ولو تابعنا بقية الكلف علينا من حينها لوجدنا أنها فاقت سعر البيع ذاك، وهذا حتما يؤشر على فساد, ولكن المؤشر الأخطر اقتصادي سياسي. فالأردن بات دون ميناء بحري. فتاريخ التزامه بتسليم الميناء للمشتري مضى عليه أكثر من عام, بمعنى أننا الآن مستأجرون لميناء العقبة حسب عقد البيع الذي لم تعلنه الحكومة, ولكن نشرته مواقع إخبارية.
وحتى الاستئجار غير مضمون استمراره إن طلبت شركة "المعبر" إخلاء الميناء وتسليمه. وهي غير ملزمة بسقف زمني لإنشاء ميناء جديد.
ومما نشر من اتفاقية البيع نصها على أن الأرض المبيعة "لن تخضع لأي قانون يتعلق باستملاك الأراضي, وتخويل الشركة (المعبر) كل الحقوق بالتصرف بالأراضي من ناحية البيع والبدل والرهن لمن تشاء في أي وقت تشاء", أي أن "الحكومة" لا تستطيع إعادة استملاك الميناء! وماذا لو قامت "المعبر" (شركة تهدف للربح وليست لها صفة سياسية تلجم قراراتها) ببيع أرض الميناء لجهة من مصلحتها ألا يكون للأردن ميناء لحين يتمكن من إنشاء ميناء جديد جنوبه؟!
والأخير شبه مستحيل لتعاظم مديونيتنا، والأهم في ظل ما هو معروف من مصالح وأهداف وارتباطات الدائنين "السياسية", مما سيجعلهم يضغطون علينا لسداد ديوننا بدل إقراضنا المزيد لبناء ميناء بعنا سابقه بثمن بخس!
على هذه الخلفية المعدة بعمل دؤوب على مخطط محكم, بنت إسرائيل سياستها الجديدة في تحويل تجارتنا لميناء حيفا. ولأن شركات الملاحة الأردنية رفضت ذلك, دخلت إسرائيل سوق الشحن الأردنية عبر شركات بجنسيات أجنبية, كما تمكنت من "تأسيس شبكات داخلية لها من الموظفين ضعفاء النفوس, والاتصال مع وكلاء الشحن في الخارج إضافة لعملاء تلك الشركات والطلب منهم تحويل أعمالهم إلى هذه الشركات الأجنبية بأسعار أقل من نظيراتها الأردنية".. حسب كتاب اقتصاديين.
وتداعيات الأزمة السورية مكنت شركات الشحن الإسرائيلية من تحويل معظم أعمال الشحن البحري والبري من الموانئ والأراضي السورية لميناء حيفا وللطرق الإسرائيلية, وهي تعرض أسعارا للشحن أقل بـ200 دولار لكل حاوية, حتما لحين إخراج الشركات الأردنية من سوق النقل البحري.
وما يجري يتجاوز المنافسة غير الشريفة والاحتكار لخطر السيطرة على اقتصاد وثروات البلد لأهداف سياسية، فالأمر الآخر الخطير الذي أعيد إحياؤه هو موضوع الغاز الطبيعي الذي تفاوض حكومتنا لشرائه من إسرائيل في استكمال لزعم أن انقطاعات توريد الغاز المصري وراء ارتفاع كلف توليد الكهرباء, ليبرر به العجز الدائم في الموازنة والاقتراض المفتوح والرفع الجائر لكلفة الكهرباء على المواطنين وبما يهدد مشاريع التنمية ويفاقم الغلاء.
هذا في حين أن أرباح شركة دبي كابيتال من شركتي "توليد" و"توزيع" الكهرباء, بعد شرائهما عبر وكيلها الذي هو رئيس زراء أردني، وقبل إعادة بيعها بربح آخر لشركة سعودية, يدحض هذا الزعم.. فيما استمرار تحميل الشركة الثالثة التي أبقيت حكومية ما يزعم أنه ديون سابقة وأيضا كلف "توليد" الكهرباء اللاحقة, مع أن الشركة الثالثة هي "الناقلة", يشي بما هو أبعد.
وفي تمهيد لشراء الغاز الإسرائيلي بدأ الحديث عن كونه "الأقل كلفة من بقية المصادر", مدعما بشواهد من مسودات وعروض اتفاقيات توليد الكهرباء باستعمال مصادرنا المحلية كالطاقة الشمسية والصخر الزيتي, والتي هي عروض فاسدة بل ومريبة بأبعد من هذا في اشتراطها, مثلا لسعر بيع مرتفع للكهرباء هو حاليا سعر البيع للشريحة الثالثة الموسرة! وهذا يوضح أن رفع أسعار الكهرباء هدف قائم بحد ذاته وعابر لكل العقود والاتفاقيات.
والسعر المعروض من إسرائيل هو أعلى سعر للغاز في السوق العالمي. وحتما الارتفاع المتوقع في أسعار الغاز بعد قضية أوكرانيا والقرم سينعكس علينا في حدوده العليا, وهذا غير قطع الوريد بعد تمكن إسرائيل من الرقبة.
وسعي إسرائيل لرقبة الطاقة الأردنية، والكهرباء تحديدا، كونه لا مناص من إنتاجه ولا يمكن إبقاؤه في الحفظ والصون تحت الأرض لحين استكمال مشروع الهيمنة الإسرائيلية -كما صخرنا الزيتي وحتما نفطنا- هو مطلب أساسي لإسرائيل وخططت للتحكم به من قبل عبر الغاز تحديدا (المصري حينها), وثبت لي هذا في أوائل صيف العام 1997. وكنت عضوا في مجلس النواب حينها، ولكن آخر دورة انعقاد لمجلسنا كانت قد فضت.
والأمر تمثل في مشروع لإعطاء امتياز حصري لاستيراد الغاز المصري لشركة غير مسجلة, ولكن ملكيتها "ستكون" لابن عبد الهادي المجالي شقيق رئيس الحكومة الذي وقع اتفاقية وادي عربة, وشريك آخر واضح أنه واجهة كون اسمه الثنائي فقط لم يسمع به لا من قبل ولا من بعد.
ومن شروط الامتياز تحديد الشركة لسعر بيع الكهرباء ومنع الحكومة من إعطاء أسعار مخفضة أو مدعومة لأي جهه, مما يهدد كل مشاريع التنمية وفي مقدمتها الصناعة. ومنها أيضا امتلاك الشركة حق تصديره لمن تشاء (حتما لإسرائيل) وبالسعر الذي تشاء، بل أعطيت حق منع استخراج أي مصدر طاقة من أرض الأردن دون موافقتها وحق تحكمها بتسعير وبيع ما ينتج من الغاز الطبيعي (إن ظهر وسمحت هي باستخراجه).
هذا إضافة لانتفاعات فاسدة ومريبة سياسيا، كاشتراط قيام الحكومة (مقابل مبلغ مقطوع) باستملاك كل الأراضي التي تقول الشركة إنها تحتاجها لأعمالها (دون تحديد المساحات أو الأمكنة)، وأن تملك حق تحديد استعمالات الأراضي "العامة والخاصة" التي ستمر منها خطوط الغاز (الاتفاق هو على تمديدات تصل حتى للمنازل) بما يمكن معه أن توقف كل استثمار حكومي أو خاص لتلك الأراضي بمجرد مد أنبوب عبرها أو زعم نية مده!.
وهذا يتجاوز التحكم الإسرائيلي الجاري بأراضي الضفة الغربية والمدان عالميا، كون الأخير يجري قسرا باسم الاحتلال وليس بزعم اتفاق عليه مع دولة ذات سيادة.
ووضعتُ حينها تقريرا مفصلا عن فساد ومخاطر تلك الصفقة التي كانت قاربت التوقيع. ولتحاشي توقيعها سلمته باليد للملك حسين عبر رئيس الديوان الملكي (الدكتور عون الخصاونة) عصر يوم خميس لعلمي باستحالة تسجيل شركة وتوقيع اتفاقية معها في يوم جمعة. وصبيحة السبت نشرت تقريري.
النشر ألزم بانسحاب شركتي النفط العالميتين أموكو وتراكتابل من الصفقة خشية على سمعتهما. وتحول الأمر لسجال بيني وبين حكومة "العم" عبد السلام المجالي على صفحات الأسبوعيات الأردنية.
وحين تراجعت الحكومة لزعم أن هذه كانت فقط مطالب الشركة (غير الموجودة) وأنها وجهت لها كتابا برفضها, تحديتها أن تنشر الكتاب برقمه وتاريخه.. فأصدرت الحكومة أوامرها للصحافة بمنع نشر كل ما يتعلق بالموضوع.
وانتهت الصفقة لتحل محلها اتفاقيتا توريد الغاز المصري للأردن وإسرائيل منفردتين. واتفاقيتنا مع مصر أبرمت مع شركة أخرى لتوريده سجلت في مصر وملفها في وزارة الصناعة والتجارة الأردنية لا يحوي سوى اسمها "شركة الفجر للغاز" واسم محاميها في الأردن.
سعر البيع البخس لإسرائيل (43% من سعر السوق) لم يمكن إخفاؤه طويلا، فيما السعر المقدم لنا بقي سرا, وعرفنا فقط أنه عدّل بعد الثورة, ولا نعرف كم أصبح أيضا لندحض مزاعم خسائرنا.
ولا يتسع حيز المقالة للإحاطة بكامل الأنشطة الاقتصادية "الإستراتيجية" التي تتغلغل فيها إسرائيل, ولكننا نختم بالإشارة لبعض ما يجري لزراعتنا, وتحديدا لتفصيل له علاقة "بالسيادة على الأرض الأردنية" حرفيا.
فقبل أشهر ورد في تقرير لإذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي أن مزارعين إسرائيليين على الجانب المحتل من غور نهر الأردن "قرروا نقل حقولهم" للأردن، لأن "كلفتها أقل بكثير فضلا عن تطابق المناخ".. ولا حديث عن مفاوضات أو اتفاقيات مع الحكومة الأردنية تسبق ذلك "القرار"!
والحقول لا "تنقل" كما المصانع مثلا, واتفاقية وادي عربة سوقت بمبرر "تحرير كامل أرضنا بحدودنا زمن الانتداب"، ولهذا رسّمت في الاتفاقية بمسار نهر الأردن!
والأمر لم يبدأ "بقرار" هؤلاء, بل هناك في غورنا إسرائيليون آخرون قبلهم تحدثوا لإذاعة الجيش الإسرائيلي نفسها عن تصدير أغلب محاصيلهم لأوروبا! فيما مزارعونا في الغور ما أتيح لهم أن "يقرّروه" هو الاعتصام منذ فترة، لأن عملهم بات دون مردود، ويلقون بمحاصيلهم في الشارع احتجاجا على فرض أسعار لبيعها للسوق المحلي تصل في بعضها لواحد على ثمانية من سعر بيعها بالتجزئة.. والحكومة لم تفاوضهم أيضا, بل تصدت لهم بقوات الدرك!
(الجزيرة 2014-06-04)