ضجر

«هل هم وحدهم من دون خلق الله جميعاً عاجزون عن التنبه إلى مقدار الضجر الذي يثيرونه لدى الناس في كل مرة يتصدرون فيها الشاشات الصغيرة وأمامهم المكروفونات والمذيعون المنتظرون «سكوباً» لا يأتي أبداً، أو كلاماً جديداً لا يعرف طريقه إلى تلك الأفواه الكالحة؟»... بهذا السؤال الغاضب واجه الحلاق العجوز جاره الصحافي الشاب حين مرّ به عند الصباح محاولاً أن يقرئه السلام كعادته.
طبعاً، بحكم العادة كان الصحافي يعرف، أو يعتقد أنه يعرف، هؤلاء الذين يعنيهم الحلاق بكلامه: فهم عادة مزيج من السياسيين الذين يرى الحلاق أنهم يقولون أي كلام... و «الخبراء» الذين يقولون كل شيء عن كل شيء ويتوقعون ما لا يحصل أبداً، وحتى الفنانون و «النجوم» الذين بات همّهم الوحيد الترويج لأعمالهم التي لا روح فيها ولا فن على الإطلاق فيما هم يعبرون على «حنينهم» إلى زمن الفن الجميل من دون أن يحاولوا محاكاته أو الدنو منه... في العادة يجعل هذا كل هؤلاء، في نظر الحلاق، حالاً ميؤوساً منها، وبالتالي تكون النتيجة بضعة آراء متبادلة بين الجارين ينصرف كلّ منهما بعدها إلى شؤونه.
ولكن هذه المرة، بدا الأمر مختلفاً بالنظر إلى أن عيني الحلاق كانتا تقدحان شرراً غريباً يعني أن المقصودين هذه المرة غير كل أولئك. وبالتالي كان لا بد للصحافي الشاب من أن يتوقف متسائلاً من يغضب صديقه إلى هذا الحد هذه المرة. ولم يتأخر الجواب. الحلاق غاضب اليوم على قومه نفسه... على أولئك الذين كان يعتقد لفترة أنهم أبناء الشعب يدافعون عن مصالحه ويطالبون بحقوقه فيُضربون ويتظاهرون ويرددون ويعيدون مهددين بأفظع الأمور ضد... ما اعتادوا أن يسموه «الطبقة السياسية»... «لقد زادوها هذه المرة، وتبدو حربهم الآن – وعلى الأقل كما تظهر على شاشات التلفزة ومن خلال أحاديثهم وقد بات يسرّهم كما يبدو أن يتحولوا إلى نجوم تلفزيونية - تبدو وكأنها موجهة ضدنا وضد مدارسنا وأبنائنا ومصالحنا»... «انظر إليهم يا صديقي - قال الحلاق - وهم يتنقلون بين شاشة وأخرى مغيّرين بدلاتهم بين ظهور وآخر مبدّلين قصّات شعرهم... وألوان ياقاتهم، مكررين كلاماً لا يفتأون يرددونه منذ شهور، بالصيغ نفسها وبالوتيرة ذاتها من دون أن يتمكنوا من تحقيق أي شيء...».
وهنا إذ حاول الصحافي فتح فمه ليلعب دور محامي الشيطان إنما من دون اقتناع إذ تذكر مشاهدهم، وكيف أنهم، ومن بينهم أساتذة مدارس، فاجأوه مراراً بأخطاء إملائية بائسة على لافتاتهم المفتقرة إلى أي ذكاء أو خيال، قاطعه الحلاق قائلاً: «ترى أوليس من واجبكم أنتم معشر الصحافيين أن تخبروهم كم باتوا مثيرين للضجر روتينيين؟». ثم وبعد أن صمت نصف ثانية أكمل قائلاً: «آه كم أود أن أظهر على الشاشة كي أقول لهم إنني والشعب صرنا نعرف أن كلّ ما في الأمر أن مكالمة هاتفية يمكنها أن تسكتهم... تماماً كما أمكنها أن تحركهم...». ثم سكت وقد لاح عليه أن ضجره قد خفّ بعض الشيء فيما سلّم عليه الصديق وواصل طريقه...
(الحياة 2014-06-11)