«كتاب الأدغال» لكيبلنغ: ليس الكتاب الذي تعتقدون

صمويل هنتنغتون، الكاتب الأميركي الذي اشتهر خلال العشرية الأخيرة بكتابه «صدام الحضارات» يمكنه أن يعثر على سلف كبير له، إذا صدقنا الحس الشعبي نصف المثقف، في شخص الكاتب الإنكليزي روديارد كيبلنغ، إذ، منذ اللحظة التي تستعاد فيها تلك العبارة الشهيرة المنسوبة إلى هذا الأخير، والتي تقول: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا». يصبح من المنطقي البحث عن الصراع الحضاري والدائم الذي «بشّر» به هنتنغتون، لدى صاحب «الرجل الذي أراد أن يكون ملكاً» و «كتاب الأدغال» و «كيم»، والقول إن الاثنين ينتميان إلى فصيل واحد من المثقفين: الفصيل الذي لا يرى سوى الصراع والصدام بين الحضارات المختلفة، لا سيما بين الشرق والغرب.
> ولئن كان ما حدث منذ 11 أيلول (سبتمبر) المنصرم جاء لـ «يؤكد» - في نظر البعض - نظرية هنتنغتون، فإن ما حدث طوال القرن العشرين يأتي، أيضاً، ليؤكد مقولة كيبلنغ. ولكن، بعد كل شيء، إذا كان في إمكاننا أن نقول إن ما يقوله صمويل هنتنغتون واضح لا يحتمل الكثير من اللبس والتفسير، ما يجعل تصنيفه وتأييده أو دحضه، مسألة وجهة نظر ترتبط بمن يجادله المرء أو يجابهه، هل في إمكاننا أن نقول الشيء نفسه عن كيبلنغ؟ هل يمكن أن نقول واثقين إن هذا كان - كما يحلو للحس الشعبي، العالمثالثي خصوصاً أن يفترض - ناطقاً باسم الاستعمار البريطاني مكرساً أدبه وما لديه من ثقافة وموهبة لخدمة ذلك الاستعمار والدفاع عنه، من منطلق «تفوق الغرب الحضاري الذي يعطيه الحق في استعمار ديار الشعوب المتخلفة لتمدينها من جهة، ونهب خيراتها من جهة أخرى» كما يُنسب إلى كيبلنغ عادة؟ في اعتقادنا أن المسألة ليست على مثل هذا الوضوح.
> إن الأمر يتطلب، قبل إصدار أي حكم نهائي على كيبلنغ، مزيداً من البحث والتدقيق، حتى لو قلنا، مع البعض، إن كيبلنغ أنهى حياته متبنياً هذا النوع من الأفكار، هو الذي كان في الأصل أكثر عقلانية وانفتاحاً مما يعتقد كثر ويشير توجّه بعض أعماله. ومن المؤكد أن العملين الأساسيين لكيبلنغ اللذين يتيحان مثل هذه النظرة - القاطعة - إليه، وهما «الرجل الذي أراد أن يكون ملكاً» و «كتاب الأدغال»، يمكن النظر إليهما، على أنهما عملان أدبيان يحملان الكثير من الأوجه، وليسا دراستين تاريخيتين. وسنتوقف هنا، خصوصاً، عند «كتاب الأدغال» الذي فُسّر واقتُبس ودين ومُجّد، ودائماً ليس انطلاقاً مما فيه حقاً، بل انطلاقاً من النظرة المسبقة التي تعتبر كاتبه مدافعاً عن الاستعمار البريطاني، ممجّداً لتفوق الغرب على الشرق. فماذا إذا كانت هذه النظرة، أصلاً، خاطئة؟ ماذا إذا كان جزء كبير من أدب كيبلنغ وكتاباته، اهتم أكثر ما اهتم بانتقاد الاستعمار البريطاني، وليس فقط في ممارساته، بل أكثر من هذا: في جذوره الأيديولوجية التي تستند إلى فكرة التفوق «اليهودية - المسيحية» نفسها؟
> تقول لنا سيرة روديارد كيبلنغ إنه ولد في مومباي لأهل إنكليز، وربته مربية هندية لم تتوقف يوماً، خلال طفولته، عن تزويده بالحكايات والأساطير الهندية وحكايات المجد الهندي الغابر، ما شكّل لديه خلفية قوية مملوءة بالآلهة القديمة المتعددة والحيوانات المتنوعة الحقيقية منها والخرافية، حيث إن هذه الطفولة الهندية الحقيقية ولدت لديه لاحقاً حساسية حقيقية ضد الحضارة اليهودية - المسيحية، حتى وإن كان لم ير مندوحة في أن تستفيد الهند، بعد زمن انحطاط اقتصادي، مما استجدّ في الحضارة الأوروبية من تنوير، وفصل للكنيسة عن الدولة كانا معاً شرطاً لتقدم كان كيبلنغ يأمل في تحقيقه.
> من هنا، كانت مهمة الاستعمار (والإمبريالية وفق تعبيره) أن تحب الأمم التي تستعمر بلدانها، وأن تبدو قادرة على احترام الشعوب والأمم وثقافاتها. وبالنسبة إليه، فإن الإمبريالية الإنكليزية فشلت في ذلك في رأيه. أو هذا على الأقل ما آمن به خلال فترة باكرة من حياته، إذ حَسْبنا أن نقرأ واحداً من كتبه المبكرة «حكايات التلال البسيطة» لنرى كيف أنه يصور في تلك الحكايات وضعاً ساخراً وقاسياً وشاجباً للمجتمع الكولونيالي البريطاني، واضعاً في مقابله مجتمع السكان المحليين الذين لا يكف عن التعبير عن إعجابه بعاداتهم ومعتقداتهم وأساطيرهم.
> وهذا الإعجاب لن يفوتنا أن نلاحظه في معظم كتب كيبلنغ، لو قرأناها بغير القراءة السطحية التي يقرأها نقاده. ولنذكر هنا أن كيبلنغ، حين بلغ سن المراهقة، بعد تربيته الهندية التأسيسية على يد مربيته، وأرسل إلى إنكلترا لكي يحوز تربية إنكليزية «صالحة»، كان يمضي معظم وقته في إعادة كتابة الحكايات التي يجدها في التوراة، في شكل يجعله يدمج فيها حكايات الجن والأساطير الهندية. وهي ممارسة ظلت ترافقه حتى حين صار كاتباً، إذ لن يفوتنا أن نلاحظ وجودها في الكثير من كتاباته.
> في «الرجل الذي أراد أن يكون ملكاً» كما في «كتاب الأدغال»، لدينا الموضوع نفسه تقريباً: ففي الكتاب الأول هناك ضابط صف في جيش الهند الإنكليزي، يجد نفسه وقد اعتبرته قبائل الجبال الأفغانية، متحدراً من الإسكندر الأكبر الذي وصل حكمه إلى هناك، ما يجعله ملكاً على تلك القبائل. وفي «كتاب الأدغال» (بجزءيه المنشورين عامي 1894 و1895) لدينا، وسط باقة من الأفكار والمواضيع، حكاية «الرجل الصغير» ماوغلي الذي يجد نفسه ذات يوم ضائعاً وسط الأدغال الهندية، محاطاً بحيوانات الغابة التي سرعان ما تقبل وجوده في صفوفها. وفي الغابة (وكما يحدث في أساطير البحر الأبيض المتوسط القديمة، وكذلك في «حي بن يقظان» ولاحقاً في «روبنسون كروزو») يحدث لماوغلي أن تربيه وتعتني به أنثى حيوان (هي ذئبة هنا). هكذا إذ يترعرع الفتى وفق شريعة الأدغال خاضعاً لها، يكون لديه ما يميزه ويجعله متفوقاً على بقية الحيوانات. فهو إنسان ذو عقل بعد كل شيء.
> هكذا، شيئاً فشيئاً يصبح هو ملك الأدغال، سيداً على هذا الشعب الحيواني الذي - أصلاً - يعيش كل حريته. ولكن بما أن ثمة في الأدغال، وكما يقول كيبلنغ، ما هو أكثر بعض الشيء من مجرد شريعة الغاب، يبدأ ماوغلي بمجابهة حرية لا تستقيم تماماً مع عقلانيته التي تريد تنظيم الأمور، فيكون الصدام، ويهرع أصدقاء ماوغلي الثلاثة: الدب الأسمر، الفهد الأسود وأصلة الصخور، لإنقاذه. وهو أيضاً يحارب ضد أعداء هذا الشعب مسيطراً في نهاية الأمر على النمر الشرير شيري خان ذي العينين الصفراوين.
> غير أنه بعد حين، وإذ يصبح في شرخ الشباب يتنبه إلى أصله الإنساني، فيبدأ بالانفصال تدريجاً عن الحيوانات التي ترعرع في أحضانها، فـ «الإنسان يعود في نهاية الأمر إنساناً، ومهما كانت عواطفه»، كما تلاحظ إحدى شخصيات الكتاب. وينتهي الأمر بماوغلي إلى مبارحة الأدغال حتى الأراضي المزروعة حيث يعيش إخوانه في الإنسانية وينضم إليهم.
> والحقيقة أن كيبلنغ لا يفعل، في هذا النص ذي البعد الفلسفي - والذي استُند إليه دائماً للحديث عن موقف كيبلنغ «الاستعماري» - أكثر من اقتباس الأسطورة التي نجدها أصلا لدى ديوجين اللائرسي، حول استحالة أن يكون الإنسان شيئاً آخر غير الإنسان، وهو ما فعله نفسه قبله دانيال ديفو الإنكليزي، وابن طفيل العربي. ولكن، لأن كيبلنغ عاش في زمن الاستعمار، كان ممكناً ربط فكره بالفكر الكولونيالي على هذه الشاكلة.
> ولد روديارد كيبلنغ في عام 1865، ومات في عام 1936. عاش حياة متقلبة متنوعة، انتهت به كهلاً خائب المسعى يدافع عن الإمبراطورية البريطانية، بعدما انتقدها وشجبها طويلاً. وهو ارتحل كثيراً خلال حياته وكتب كثيراً. كتب للكبار والصغار، واخترع من العوالم ما لم يخترعه أي كاتب آخر في زمنه. ولعل مرحلته البريطانية - التي أنهى بها حياته - كانت الأسوأ. من هنا، فإن الباحثين المنصفين في عمله، يميلون دائماً إلى التركيز على مراحله الأولى، حين كان أكثر كرماً وخيالاً وقدرة على رؤية الأمور بمنظار صحيح. الزمن الذي كان فيه، إذ يقيم تعارضاً بين الشرق والغرب، فإنما لكي يمجد حضارة الشرق لا العكس.
(الحياة 2014-06-17)