مصيدة العناوين الكبرى

يجبُ الذهاب إلى اليسارْ
يجبُ التوغل في اليمينْ
يجبُ التمترس في الوسطْ
يجبُ الدفاع عن الغلطْ
يجبُ الذي يجبُ.
هكذا كتب "محمود درويش" في 1983، ساخرا من واقع التشرذم في زمن المواجهات الكبرى، وأظن أن بإمكاننا أن نستعير من الشاعر سخرية عمرها 31 سنة، رثاء لواقع يحشر العناوين الكبرى في خدمة أضيق المصالح وأقلها شأنا، محولا "القوة" إلى "قوى" و"الشعب" إلى "تيارات" لنقف ـ مرة أخرى ـ على أعتاب مواجهة كبرى، ربما يعيدنا إهدارها، مرة أخرى، إلى "صفر" بارد ولئيم.
الاتهام هو العنوان الأبرز في الجدل العام، في مشهد يضم مجموعة "قنافذ" تهاجم فتبرز أشواكها، وتدافع فتتكور مغلقة سبل الإرسال والاستقبال، تعبيرا عن ثقة مفقودة، في النفس وفي الآخر، وقبل هذا وذاك، فهي ثقة مفقودة في "العناوين الكبرى" نفسها، التي طالما بخلنا حتى بـ"الامتعاض" ونحن نرى شرفها الرفيع يهدر، وهي تستغل للتدليس، كأنها الفروع الخضراء التي يغطي بها لصوص العاج حفر صيد الفيلة.
انظروا ـ مثلا ـ إلى "العروبة" التي رفع رايتها مستبدون كانت السلطة كل همهم، وتأملوا حالنا منذ رأينا وجوههم حتى الآن، وستكتشفون أننا لا نتوحد كعرب، بل نزداد انقساما: انقسمت "سوريا الكبرى" وانقسم وادي النيل إلى مصر والسودان، ثم إن السودان انشطر إلى شمال وجنوب، ولدى التشرذم مزيد، ولا يربط العراق بشماله إلا خيط الفيدرالية الرفيع، لم يعد تماسك أي قُطْر إلا قشرة رقيقة ينخرها السوس.
"السلام" أيضا كان راية أخرى كاذبة، وعنوانا كبيرا استخدم للتدليس، حيث زاد عدد الحروب وأصبحت أشد عنفا وأكثر ضحايا، وتراجعت التنمية ـ التي تم الترويج للسلام باسمها ـ لتتراجع مصر ـ صاحبة الخطوة الأولى على هذه الطريق ـ من قائمة الدول العشرين الأعلى نموا في العالم، إلى المركز الأخير، وإن جاملت وتحفظت فهي "قريب منه"! تحت لافتة "الرخاء" أصبحت مصر أشد فقرا. وباسم "تحرير الاقتصاد" تراجعت قيمة عملتها الوطنية أكثر من 15 ضعفا في 38 سنة، ما يعني أن الجنيه كما يتم تداوله الآن لا يساوي أكثر من 7 قروش من قيمته قبل أقل من 40 سنة! فهل يمكن أن نثق في عملة اسمها "جنيه" وفعلها "7 قروش"؟ وهل يمكن أن نثق في نواتج واقع كهذا؟
العناوين الكبرى في بلادنا كانت للتضليل فقط، لهذا لا يثق أحد في أحد، ولا يطمئن قوم لقوم، وعندما تجد من يتحدث عن الحرية، أو عن لقمة العيش وأمن البيت، أو عن العدل، دقق في عيون معظم من يستمعون إليه، وستجد الكثير منها يقول له: العب غيرها!
تاريخ من التدليس، وحاضر تتحرك فيه "الأقدام" عكس اتجاه "الكلام"، مبقيا المطالب محض مطالب، والأحلام مجرد أحلام، حتى اللحظة "العبقرية" التي وحدت العرب في ربيع "الشعب يريد" حرص الكثيرون على أن يغادروها بسرعة، كأنهم حريصون على سرعة استرداد أشواك القنافذ، وجبنها أيضا!
(الشرق 2014-06-19)