«خطف في السرايا» لموتسارت: شيء من الإنصاف لصورة الأتراك

تم نشره السبت 28 حزيران / يونيو 2014 12:28 صباحاً
«خطف في السرايا» لموتسارت: شيء من الإنصاف لصورة الأتراك
ابراهيم العريس

في الزمن الذي لحّن فيه موتسارت، أوبرا «خطف في السرايا»، كان يلقى الكثير من الرواج الشعبي ذلك النوع من العمل الموسيقي الساذج، طالما أن الجمهور إنما كان يأتي هنا ليلهو ويضحك، مفضلاً أن تأتي الموسيقى على مزاجه، وأن تكون أقرب شيء إلى ما سبق أن عرفه من موسيقى. فـ «خطف في السرايا» تنتمي من ناحية الاسلوب والشكل إلى «الأوبرا الهزلية»، بل أيضاً إلى «الأوبريت» أكثر من انتمائها إلى الأعمال الأوبرالية الكبيرة. غير أن موتسارت عرف على رغم هذا كله، كيف يسم هذا العمل الذي كان يتعين عليه من الناحية المبدئية ان يكون بسيطاً و «شعبياً» الى ابعد حدود الشعبية، بعبقريته، وبانفتاحه على الحياة في ذلك الحين، خصوصاً أن الموسيقي الشاب كان في العام الذي لحّن فيه «خطف في السرايا»، اي في العام 1782، قد توج بالزواج حكاية حبّه من فاتنته كونستانس. ومن هنا، لم يكن غريباً أن ينعكس ذلك الحب على عمله الجديد، وأن يطلق على الشخصية الأنثوية الرئيسة في هذا العمل، اسم حبيبته كونستانس.
> غير أن هذا كله لم يكن التجديد الأساسي والوحيد في ذلك النوع من العمل، إذ إن موتسارت، من ناحية الموضوع، حرص هنا على أن يمضي في رسم صورة إنسانية خالصة، حتى لأغلظ القساة - مبدئياً - في المخيلة الشعبية الأوروبية: الباشا التركي وربما الأتراك في شكل عام أيضاً. إذ، فيما كان الأوروبيون ومنذ زمن بعيد في ذلك الحين، ينظرون إلى المسلمين والأتراك على أنهم قوم مرعبون قساة القلوب ووحوش ويرون ان من الأفضل للمرء ألا يقع تحت سيطرتهم أبداً، آثر موتسارت أن يقلب الصورة تماماً ليقدّم، عبر شخصية الباشا، ما هو شديد القرب من شخصية القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي التي اتسمت لدى قطاعات عريضة من الجمهور الأوروبي، ومنذ ايام الحروب الصليبية، بأقصى درجات التسامح حتى مع الأعداء. واللافت أن رسم موتسارت لتلك الشخصية على هذا النحو في ذلك الحين، لم يثر أي احتجاج أو انتقاد. وواضح هنا أن درجة الإبداع الموسيقي التي لجأ إليها موتسارت من أجل إظهار عمله هذا على أكمل وجه، فعلت فعلها وهيمنت على وجدان المستمعين / المتفرجين وعلى عقولهم، ما جعل أي شيء آخر يبدو ثانوياً.
> كانت تلك المرة الأولى التي يعطى فيها لعمل أوبرالي خفيف وترفيهي، مستوى تلحينياً يصل إلى حدود النبل الموسيقي، أي إلى ذلك المستوى الذي كان الموسيقيون يفضلون دائماً جعله من نصيب الأعمال التراجيدية الكبرى. ولقد كمنت المفاجأة الحقيقية، يومها، هنا تماماً، في هذا المستوى الذي آثر موتسارت ان يسبغه على عمل كان من المفترض به ان يكون عملاً شعبياً خالصاً. ذلك ان موتسارت عرف كيف يقلب القواعد، كاتباً لأوبراه هذه موسيقى مدروسة تماماً ومتوازنة تماماً، من دون أن يترك للمصادفة أي مجال للتدخل. وهكذا أتت موسيقى «خطف في السرايا» شديدة التعقيد والتركيبية، مملوءة باللازمات الكونتربونتية التي تبدو في الوقت نفسه شديدة الأناقة بل حتى عصية على التنفيذ إلا على يد عازفين من الطراز الأول. كذلك، وكان هذا أيضاً أمراً نادراً في عالم ذلك النوع من الأوبرا، إذ أتت الموسيقى متناسبة كلياً مع المواقف المشهدية والشعر المكتوب - بالألمانية - كان هذا بدوره تجديداً فائق الأهمية، فالأعمال من هذا النوع كانت تقدم في كل مكان بالإيطالية باعتبارها لغة المسرح والتهريج في مقابل جدية اللغة الألمانية، لغة التراجيديا.
> فما هو، بعد كل شيء موضوع هذا العمل الاستثنائي؟ إنه موضوع بسيط، نجده في الكثير من الحكايات الخرافية، وعدنا ووجدناه من بعد «خطف في السرايا» في أعمال كثيرة، لا سيما منها تلك التي تدور من حول فانتازيا «الحريم» الشرقي. هنا في هذه الأوبرا، ذات الفصول الثلاثة، يطالعنا أول الأمر عند شاطئ مواجه لقصر الباشا التركي، الشاب بلمونت وهو يغني حنينه وبحثه عن خطيبته الفاتنة كونستانس، التي كانت وقعت أسيرة في يد الأتراك وها هي الآن نزيلة حريم ذلك الباشا القوي. ويتحرك بلمونت هنا (وكالعادة التي كانت متّبعة في ذلك النوع من المسرح الغنائي)، بفضل مساعدة خادمه بردي الذي كان دخل في خدمة الباشا لكي يتمكن هو الآخر من رؤية ما حلّ بخطيبته بلوندين، التي كانت بدورها أسرت من الأتراك أنفسهم. يتمكن بلمونت إذاً من مخادعة أوسمين، حارس السرايا الرهيب ومالك بلوندين في الوقت الحاضر، ومن التسلل إلى حيث تمكّن من مشاهدة حبيبته كونستانس. وهناك في الداخل يتبين لبلمونت كما لبردي، أن الأمور ليست مظلمة تماماً كما كان يخيل اليهما. وأنه لا يزال ثمة أمل كبير باستعادة الفتاتين. كيف؟
> أولاً: لأن بلوندين ذات اللسان الطيب والسليط في الوقت نفسه تمكنت بكلامها الشعبي الحافل بالذكاء من السيطرة على الانكشاريين الذين كان مطلوباً منهم أن يسيطروا عليها. وبهذا كان في وسعها في كل لحظة أن تدافع عن نفسها إزاء تعنّتهم. أما كونستانس فلسوف يتبين لها، ولخطيبها الملتاع، أنها إنما وقعت - لحسن حظها - بين يدي باشا رحيم ذي نزعة إنسانية. صحيح أن الباشا معجب بها، لكنه لا يريد إرغامها على ما لا ترغب هي فيه، لذلك يقرر وبكل نبل أن يصبر وينتظر حتى تقع هي في غرامه. لكنها، بالطبع، لن تقع في غرامه، بل إن بردي يرتب محاولة فرار للأربعة معاً، سرعان ما تنكشف أمام ذهولهم ويقادون إلى حيث يجلس الباشا ليعرضوا أمامه حالتهم، ويكون الحكم له في نهاية الأمر.
> لكن الباشا يبدو متفهماً، ولا يريد أبداً أن يحطم كبرياءه عبر حب يعرف الآن أنه من دون أمل. لذلك يساجل الأربعة وهو ناوٍ إطلاق سراحهم. غير أن الأمور سرعان ما تتعقد، حين يتبين أن بلمونت ليس في حقيقته سوى ابن اميرال مسيحي غربي، هو واحد من أشرس أعداء الباشا، بل كانت له اليد الطولى في دمار وخسران اصابا هذا الباشا قبل فترة. ويحار الباشا في أمره، لكنه ينطق بحكم الموت على الفتى. بيد أن كونستانس تعلن أمام ذهول الجميع أنها هي الأخرى تطلب الموت إلى جانب حبيبها. وحدها بلوندين، الفتاة الشعبية تبقى على شجاعتها، فيما أوسمين الرهيب يجلس في مشهد مريع وهو يتخيل قتل هؤلاء الغرباء وامتصاص دمهم. ولكن في النهاية يلتفت الباشا إلى بلمونت ويقول له بكل هدوء: «إذهب حراً طليقاً. خذ فتاتك كونستانس. وأبحر إلى وطنك. ثم قل لأبيك إنني كنت صاحب السلطة على حياتك وموتك، لكنني اطلقت سراحك، لكي أعلمه بأن أقصى درجات الرضى عن النفس يكمن في الإحسان إلى من أساء إليك، بدلاً من مراكمة الاطلال على الاطلال». وهكذا يتم العفو عن الأربعة ويرحلون وهم ينشدون أغنية نهائية مرحة، يغنيها معهم الجنود وقد تحولوا من حراس ومقاتلين قساة القلوب إلى فرقة كورس مسلية.
> تدخل كتابة هذه الأوبرا على هذا النحو الترفيهي المؤكد، إذاً، ضمن إطار المزاج الذي كان موتسارت عليه في ذلك الحين. وموتسارت (1756 - 1791) كان، حين لحن «خطف في السرايا» من نص للكاتب برتزنر عنوانه «بلمونت وكونستانس»، كان في السادسة والعشرين من عمره. لكنه كان اضحى «عجوزاً» بالنسبة إلى حجم موهبته، وبالنسبة إلى عمره القصير، إذ إنه مات بطريقة لا تزال تثير التساؤلات حتى يومنا هذا، بعد تسع سنوات فقط من تلحين «خطف في السرايا» التي كانت واحدة من أنجح أعماله حين قدمت ولاقاها الجمهور بإعجاب شديد. واليوم تعتبر «خطف في السرايا» من أفضل الأوبرات الهزلية «الخفيفة» في تاريخ هذا الفن، وهي تحتل في مسار موتسارت الموسيقي، الحافل بالسيمفونيات، وبالاوبرات خصوصاً، مكانة متميزة إلى جانب «دون جوان» و «كوزا فان توتي» و «الناي السحري».

(الحياة 2014-06-28)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات