رمضان والمصالحة مع الذات

ما أحوجنا الى المصالحة، بمعناها العام والشامل، بعد هذا النزوع المتطرف الى المخاصمة والخصام والتنافر، التي قلبت حياتنا جحيماً لا يطاق، وملأت الساحات والأزقة بغضاً وحسداً وغلاً وحقداً أسود، ومكراً تزول منه الجبال، وأنتجت سلوك التجسس والتصيّد، وحب الايذاء والتلذذ بإلحاق الألم بالآخرين.
رمضان اليوم يرفع آذان اليقظة والصحوة من أجل تنبيه الغافلين، ويقرع الجرس ليسمع الصم البكم الذين ران على قلوبهم طبقة دهنية قاتمة ومعتمة، تحول دون الرؤية ودون الإصغاء، فرمضان فرصة لإعلان المصالحة مع الذات أولاً، لتمهيد الطريق للمصالحة الشاملة.
المصالحة مع الذات تقتضي العودة الى أصل الكينونة الآدمية المخبوء في أعماق النفس وأعماق الخلقة البشرية، وتقتضي العودة الى حقيقة الفطرة، التي جبل الانسان عليها، وكانت في أصلها سليمة صافية، بيضاء نقية، تحمل مخزوناً هائلاً من الاستعدادات والميول والاتجاهات التي تحتاج الى رعاية وتنمية وتوجيه وتربية وصقل، وتحتاج الى فهم و تصبّر وحسن تعامل قائم على العلم والمعرفة والخبرة.
لن تتحقق معرفة الذات إلّا من خلال التوجه الى الخالق الكريم بإخبات وتواضع وانابة تامة، وطرق باب المولى والجلوس على أعتابه في نهار رمضان ولياليه، حيث تفتح الأبواب وتشرع النوافذ وتضاء الطرق والدروب للسالكين، وقوافل المدلجين خلف الحادي في مقدمة الركب بصوته العذب الرخيم، وألحانه الهادئة الجميلة.
في غمرة الحياة تحيط بالنفس أغشية الضباب، ويمتلىء القلب بأخلاط الحياة، وتتغلف الفطرة بأستار الشهوات، وحجب المعاصي، وتتراكم الغبار على الأبصار شيئاً فشيئاً، فتمنع الرؤية وتمنع شمس الصباح من ملامسة نوافذ الروح المطمورة في قوقعة الأنانية والاستغراق في حب الذات.
أول خيوط المعرفة ادراك موقع الذات في هذا الجيش العرمرم من البشر من فجر الخليقة الى يوم القيامة، وادراك مرتبتها ومشابهتها لبني جنسها، وادراك ضعفها، وحقيقة مصيرها ومآلها على نحو مؤكد يقلل من جنون الاستعلاء على الناس، ويخفف من الكبر والعجرفة على بني البشر ويحول دون الشعور بالعظمة الجوفاء من خلال علمه اليقين بحقيقة ضعفه، وذهابه المحتم الى الموت والفناء، ومن خلال الحقيقة المؤكدة تحت التراب.
نحن بحاجة ماسة للعودة الى الذات، تشكل عودة الى المبادىء والقواعد الثابتة، لإعادة الانطلاق وتصحيح المسار، وليس رجوعاً الى الخلف أو نكوصاً على الأعقاب، وإنما من أجل إدامة الوصل مع أصل النشأة والوقوف على المفترق مرة أخرى حتى يمنع الاسترسال في التيه.
إن المسار الذي يؤدي الى مزيد من العنف، ويرفع مستوى الكراهية ويزيد منسوب الحقد والغل، يستحق التقويم ومعاودة المراجعة، من أجل أن نجعل من الدين آداة للتوحيد، وصقل المشاعر، وزيادة التمسك بقيم التسامح والتغافر، وقيم التراحم والتواصل من أجل الاسهام في قيادة المجتمع كله نحو التصالح.
تبدأ المصالحة بالذات وتنطلق للبيت والأسرة، والأسرة الكبيرة والعشيرة والحي والقرية والمدينة، وتتسع لتشمل المجتمع كله، من خلال الاقبال على الله في ساعات السحر، ومناجاته قبيل الفجر وبعده، وتشريع نوافذ الروح لهبات الرحمة القادمة من اعالي الفردوس، ومن باب الريّان.
تبدأ المصالحة من حقيقة الإدراك العميق لمعنى الايمان والتوحيد، ومعاني ربوبية الرب وألوهية الاله الواحد المتصرف بالكون على مقتضى العدل والحكمة.
(الدستور 2014-06-29)