«بلايثديل رومانس» لهاوثورن: ثوّار المدن بين نيّاتهم الطيبة وبؤس أفكارهم

تم نشره الأربعاء 02nd تمّوز / يوليو 2014 01:23 صباحاً
«بلايثديل رومانس» لهاوثورن: ثوّار المدن بين نيّاتهم الطيبة وبؤس أفكارهم
ابراهيم العريس

يذكر بعض الذين عاصروا، عن كثب، الحركات اليسارية - التي راجت على النمط الفرنسي في لبنان الستينات - كيف أن تلك الحركات كانت ترسل إلى المصانع ومناطق العمال والمزارعين مناضلين مهمتهم تعبئة أولئك البائسين وتحريضهم سياسياً. كان المرسلون يتنكرون في زي عمال أو فقراء ليتقربوا من «خزانهم البشري الثوري الطبيعي» ويشتغلوا تعبئةً في أوساطه. لكن المشكلة كانت تكمن دائماً في أن المتنكرين كانوا ينجحون في كل شيء، باستثناء قضية اللهجة، حيث كان من الصعب عليهم ألا يستخدموا تعابير فرنسية أو إنكليزية، أو أسماء غرامشي والتوسير وهيغل، فيما هم يتوجهون بالحديث السياسي التحريضي إلى عمال فقراء غالبيتهم من الأميّين. والحكاية الأشهر في هذا المجال هي حكاية اليساري الذي ما إن وصل من حيث كان يدرس في باريس، حتى وجد المزارعين المياومين العاملين في مزرعة أبيه، يتذمرون من أوضاعهم، فراح يلتقيهم سراً ويحرضهم على الإضراب والثورة على أبيه، وحين فعلوا طردهم الأب جميعاً مستنداً إلى القوانين وإلى كونهم غير لبنانيين. فما كان من العمال إلا أن اعتقدوا بأن الابن كان هو، بالتواطؤ، مع أبيه، من أوقعهم في فخ للتخلص منهم. وكانت النتيجة «علقة ساخنة» للابن اليساري الفصيح.
> مناخ مثل هذا المناخ، ومواقف من هذا النوع، وكذلك في شكل خاص، شخصيات من أمثال تلك الشخصيات ذات النيات الطيبة بعد كل شيء، هي تلك التي يضعها الكاتب الأميركي ناثانيال هاوثورن في روايته «بلايثديل رومانس» (المعروفة أيضاً باسم «وادي الفرح»). مع فارق أساسي يكمن في أن هاوثورن كتب روايته ونشرها في عام 1852، أي قبل أكثر من قرن من ظهور المناخ اللبناني - وغير اللبناني - الذي نشير إليه هنا، ليتحدث فيها عن تجربة عاشها شخصياً. والتجربة تعود إلى عام 1841، حين أسس هاوثورن مع مجموعة من القساوسة التقدميين والكتاب والفنانين من ذوي النزعات الإنسانية والنيات الطيبة، ما يمكن اعتباره مزرعة تعاونية نموذجية، عرفت باسم «بروك فارم». ولقد أتى تأسيس ذلك المشروع «الاشتراكي» المبكر في وقت كثر فيه هذا النوع من التفكير في العودة إلى الطبيعة، وفي العمل التعاوني. ولكن، لأن الوقت كان لا يزال مبكراً في ذلك الحين، ولأن الوضع في الولايات المتحدة كان يشهد في تلك السنوات المدهشة بالذات، بدايات الانتصارات الرأسمالية وبدايات الثورة الصناعية على الطريقة الأميركية وهما تحديداً العاملان اللذان أدّيا إلى ظهور ما سيعرف لاحقاً بـ «الحلم الأميركي»، كانت النتيجة أن مشروع هاوثورن ورفاقه أخفق بسرعة. أما التجربة العملية والإنسانية التي كانت في خلفية ذلك المشروع الذي كان هاوثورن مشاركاً فيه، بل ربما كان كما يقول بعض كتّاب سيرته من نواته المؤسسة أيضاً، فهي التجربة التي يتحدث عنها الكاتب في هذه الرواية. والحال أننا بعد قراءتنا الرواية، سيكون في إمكاننا أن نفهم أن هاوثورن لم يتوخَّ أبداً تمجيد تلك التجربة، بل تحديداً، السخرية منها ووصف الأسباب التي أدت إلى اختفائها غير مأسوف عليها من جانب كثر ممن شاركوا فيها، أو استهدفتهم أو كانوا من ضحاياها...
> والحقيقة أن ناثانيال هاوثورن الذي كان في الأصل كاتباً إنسانياً مرهفاً، لم يصف فشل التجربة، لكي يقول باستحالة تحققها من ناحية المبدأ... بل تحديداً، لأنه أراد أن يقول إن مثل هذا المشروع لا يمكن تحقيقه من فوق، وعلى أيدي بورجوازيي المدن من المثقفين، ومهما حسنت نياتهم. المشروع لا يتحقق، إذا، من طريق هؤلاء: المشكلة فيهم وليست في المشروع. وعلى طول صفحات الرواية ينبري الكاتب ليقول لنا، لماذا. والحقيقة، أن كل صفحة وكل شخصية وكل علاقة، لا يفوتها أن تذكر المرء بما افتتحنا به هذا الكلام، من حديث عن بورجوازيي المدن المثقفين حين يريدون أن يحققوا ثوراتهم، فوقياً، من طريق البائسين.
> منذ البداية يخبرنا ناثانيال هاوثورن بمدى الحماسة التي اندفع بها في تحقيق المشروع «ذلك أنني كنت أرى أن تلك المغامرة هي أكثر مغامرات حياتي رومانطيقية»، حيث إن هاوثورن، حين اندفع في تلك المغامرة كان لا يزال مملوءاً بالحماسة التغييرية، ومن هنا كانت «بروك فارم» بالنسبة إليه، مشروعاً زراعياً تعاونياً نموذجياً، ومركزاً تربوياً، في الوقت نفسه. في ذلك المكان كان على المثقفين بخاصة أن يتعلموا كيف يطلعون رزقهم بعرق جبينهم، أي بأعمالهم اليدوية، أن يعيشوا بالتالي على قدم المساواة مع مزارعين يأتون ليعيشوا هنا حريتهم من دون أن يسعى أحد إلى استغلالهم... وكل ذلك في روحية إخاء تامة، بين المثقفين والعمال.
> بيد أن هذا كله كان خيالياً في نهاية للأمر، لأن التزييف في الموقف والافتعال في العلاقات كانا واضحين منذ البداية ولا مهرب منهما. ذلك أن كل واحد من الفريقين إنما جاء بهدف مختلف عن هدف الفريق الآخر. فإذا كان العمل شاقاً جداً، كان من الواضح أن في وسع مثقفي المدن البورجوازيين أن يتخلوا عنه بسهولة، طالما أن لديهم ما يكفي من البدائل، أما بالنسبة إلى العمال فإنه لا بديل عنه. إنه قدرهم. وانطلاقاً من هذا الوضع الأساسي، لم يكن في وسع هاوثورن إلا أن يرصد الجانب الكوميدي المثير للسخرية في المشروع كله... بخاصة في مواقف المثقفين. وهنا نرى كم أن هاوثورن يبدو عنيفاً في سخريته، مثلاً، حين يصف شخصية المصلح المدعو هولنفسورت الذي لا يكفّ عن القول إنه إنما ينطلق في انضمامه إلى المشروع من مبادئ عقلية وفكرية. وبالاستناد إلى تعليقات الكاتب على هذه الشخصية نرصد أن خلف قناع الإصلاحي، ثمة شخصاً أنانياً قاسياً. هذه الشخصية قد تكون هنا من اختراع هاوثورن، غير أنها تشبه من دون شك كثراً من الذين ملأوا التاريخ خلال قرن ونصف القرن من الزمن، منتفضين خاصة لأسباب شديدة الذاتية. وإلى جانب هذه الشخصية، نجد هاوثورن وقد صوّر، تحت ملامح المثقفة الحسناء زنوبيا، شخصية كاتبة أميركية حقيقية عاشت خلال تلك المرحلة، واعتبرت «جورج صاند أميركا»، وهي مارغريت نولر التي شاركت بالفعل في تأسيس «بروك فارم». من خلال حديث الكاتب عن زميلته هذه في الرواية، يبدو واضحاً أنه مفتون بها، غير أنه كان يعرف تماماً كيف يخفي افتتانه هذا خلف قناع حذره الدائم والمعهود، إزاء النساء في شكل عام. من هنا، نجده في الرواية مغرماً بفتاة أخرى هي الحسناء الخجول بريتشيلا.
> إن مغامرة «بروك فارم» هذه، كما يصفها لنا ناثانيال هاوثورن، في صفحات هذه الرواية - التي بالكاد يمكن أحداً أن يخمن أنها رواية طالما أن هاوثورن كتبها محاولاً فيها أن يكون دقيقاً، إلى أبعد حدود الدقة، في وصف تلك المغامرة التي عاشها حقاً - هذه المغامرة تنتهي في النهاية على إخفاق تام، يمثل انتحار زنوبيا وقد كفت عن الإيمان بالمشروع الذي كان السير فيه بالنسبة إليها، مساراً لا يمكن الرجوع عنه.
> مهما يكن من الأمر، فإن هاوثورن صوّر الأحداث والشخصيات والمشروع كله، كأنه حلم يقظة، ولكن أيضا كأنه ذلك الأمر الواقع الذي حدث بالفعل، وفق ما يقول دارسو أعماله، من الذين توقفوا بدهشة أمام هذا العمل الذي يبدو في نهاية الأمر خارجاً عن سياق ما هو معروف من أدب هذا الكاتب الذي كان يميل أكثر إلى العوالم القوطية، تشهد على هذا روايته الأشهر «الحرف القرمزي» التي غالبا ما اعتبرت البداية الحقيقية والكبرى للأدب الأميركي في زمن عرف فيه هذا الأدب كيف ينفصل عن جذوره الإنكليزية. والحقيقة أن هذا الحكم ينطبق على «بلايثديل رومانس» أكثر بكثير مما ينطبق على «الحرف القرمزي» لأن روح أميركا كما لاحت في ذلك الحين تبدو معكوسة فيها، حتى وإن كان ناثانيال هاوثورن (1804 - 1864) قد آثر أن يقترب من موضوعه بكل ذلك القسط من السخرية، من النقد ومن النقد الذاتي.

(الحياة 2014-07-02)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات