فساد نظرية حكم المتغلب

الفتوى بجواز حكم المتغلب بالاعتماد على اقوال بعض الفقهاء الذين صرحوا بالقول: «نحن مع من غلب» «ومن تغلب بسيفه ودانت له الرقاب فهو الخليفة»، والذهاب إلى ابعد من ذلك بالقول بوجوب بيعة المتغلب حيث نُقل عن بعض أئمة الفقه: لا يجوز للمسلم أن يبيت ليلة واحدة دون أن يبايع الأمام المتغلب، هي مجرد اجتهاد ورأي لا يستند إلى نص صحيح من قرآن ولا سنة.
هذا الرأي لا ينسجم مع نظرية الإسلام السياسية التي تقوم على أصل أن الأمة هي صاحبة الأمر وهي بمجموعها تختص بهذا الشأن، ولا يجوز أن يستبد به فرد أو مجموعة أو فئة، فقد نقل الجويني في كتابه غياث الأمم أنه لا طريق لإيجاد الإمام الاّ بالاختيار، وهو محل الإجماع المقطوع به، وذلك فإن الفتوى بتصحيح إمامة المتغلب، والقول بفرض الخلافة بالسيف عبر ما أطلق عليه: «ولاية القهر والغلبة» تنقض نظرية الاختيار وتهدم أصل ولاية الأمة وسلطانها الذي لا يعلوه سلطان، وهذا الأصل الذي تمّ ترسيخه منذ ايجاد الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعن الخلفاء بعده، واستمر الاعتماد على هذا الأصل إبان الخلافة الراشدة، ومن ثمّ تم نقضه في زمن الأمويين الذين هدموا ركن البيعة الحقيقي الذي يعبر عن سلطة الأمة العامة وتم ابتداع مسألة (البيعة بالقهر).
أصل ولاية الأمة العامة يقرره القرآن الكريم بالآية: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» والأمر هنا هو الشأن العام، والإمامة والخلافة شأن عام فلا طريق لهذا الشأن الاّ من خلال الاختيار القائم على الشورى، والاختيار يقوم بجوهره على الرّضى والإرادة المطلقة الخالية من كل شوائب العنف والقوة والإكراه.
الرأي القائل بجواز إمامة المتغلب بالسيف يناقض الرأي الصادر عن الجهة نفسها التي تحرّم الخروج على الإمام وتحرّم استخدام القوة لانتزاع الإمامة من صاحب السلطة وولي الأمر وتعد ذلك نقضاً للبيعة يستحق المواجهة بالقوة، وفي الوقت نفسه تجيز إمامة من حصل عليها بالقوة والسيف.
نحن أمام مشهد متناقض يستحق التوقف، لأن الرأيين منسوبان للإمام نفسه.
هذا الرأي يستحق المعارضة والجهر بها، لأنه مجرد اجتهاد ورأي سياسي، وليس أمراً مقطوعاً به لا يجوز مناقشته ولا تجوز معارضته، ومن هنا أعتقد أن هذا الاجتهاد كان يتم تبريره في وقت من الأوقات للحد من الفتنة والدماء والصراع على السلطة، ولكنه في الحقيقة فتح الباب على مصراعيه للفتنة وأشعل الصراع على الحكم، وأصبغ الشرعية على هذا السلوك، وأصبحت القوة والقهر هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السلطة.
ولذلك نقول بالفم الملآن أن هذا الرأي لا يصح ولا يجوز الاعتماد عليه بتقرير أصباغ الشرعية على مسار أخذ الحكم بالقوة وعن طريق القهر بالسيف بل إن الأصل المعتمد الذي لا خلاف فيه أن هذا الأمر يتم برضى الأمة وموافقتها، ولا طريق تكشف عن إرادة الامة ورضاها الاّ بوساطة « الانتخابات» وهو مرادف لمصطلح الاختيار الذي استخدمه الفقهاء السابقون.
إن الذين يسارعون باعتماد هذا المنهج ظناً منهم أن هذا هو الشرع، فقد اخطأوا خطأ بيناً، وما هو الاّ رأي تم الاعتماد عليه لتبرير أفعال السلاطين وأمراء القهر والغلبة في مرحلة تاريخية، مما أدى إلى تشويه نظرية الإسلام السياسية وتشويه معنى الخلافة ومعنى البيعة، التي أصبحت تحمل معاني لا تتوافق مع الأصل القاطع القائم على أن الامة هي صاحبة السلطان وهي صاحبة التعيين وحق الرقابة والتقويم عن طريق ممثليها المنتخبين.
وإذا كان هذا الرأي مقبولاً في وقت سابق اعتماداً على الثقافة السائدة، فهو لا يصلح قطعاً في الوقت الحاضر، حيث يجب الارتكاز إلى أصل «السلطة للأمة»، وأن نطور نظريتنا للحكم استناداً إلى قواطع القرآن والسنة الصحيحة، وعدم التمسك ببعض الاجتهادات والجمود على بعض الآراء والفتاوي السابقة.
(الدستور 2014-07-03)