«أناشيد الأطفال الميتين» لماهلر: حزن عميق لبدايات قرن مدهش

على رغم أن الموسيقي النمسوي غوستاف ماهلر كان يهودي الأصل، وأن اليهود الذين عاشوا في فيينا وغيرها من مدن أوروبا الوسطى، لا سيما خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اشتهروا بمقدار كبير من روح المرح والفكاهة ثم بخاصة بمقدار أكبر من السخرية من الذات، فإن الطابع الأساسي الذي وسم موسيقى ماهلر كان طابع الحزن والمأسوية، إضافة إلى تلك الجدية الهائلة التي تميزت بها شخصيته نفسها، والصرامة التي طبعت - كما يجمع كانبو سيرته ومحللو أعماله - نقاشاته وبحثه عن أرضية جديدة للفن الموسيقي في زمن كان فيه واحداً من الذين يساهمون في بناء وتطبيق تلك المقولة التي كانت ترى أن ذلك الزمن الذي كان فيه كل جديد يأتي ليحل محل كل قديم وبخاصة في المجالات الإبداعية والفكرية. ونعرف أن الكاتب الألماني الكبير توماس مان، عرف كيف يصوّر في روايته «الموت في البندقية» سمات ذلك النزوع المأسوي الجاد الذي وسم شخصية ماهلر وأفكاره، من خلال تلك الشخصية الصاخبة التي لا تفتأ فصلاً بعد فصل في الرواية تعبر عما عندها بالنسبة إلى تلك الأمور مبدية مقداراً كبيراً من الحيرة الممزوجة بالمشاكسة على كل فكر سائد. وهو ما أدركه بالطبع لوكينو فيسكونتي، المخرج الإيطالي الذي حين حوّل رواية توماس مان تلك إلى فيلم مثّله ديرك بوغارد، لم يكتف بأن تكون في الفيلم شخصية تشبه ماهلر وتكاد تنطق باسم أفكاره، بل حرص كذلك على جعل واحدة من أكثر سيمفونيات ماهلر حزناً وتعبيراً عن القلق، سيمفونية «التيتان»، تصاحب المشهد الأخير في الفيلم حيث يموت كل شيء في البندقية.
> مهما يكن من أمر هنا، لا بد أن نستطرد لنقول إن الموت كان دائماً مهيمناً على موسيقى ماهلر هيمنته على حياته. والحزن كان جزءاً أساسياً من هذه الموسيقى. ولعل الموسيقي في تعبيره المزدوج هذا كان ينعى الإنسان، كل إنسان... غير أن هذا كله لا يعني أن ماهلر حين لحّن روائعه «أناشيد الأطفال الميتين» كان يعبّر، كما رأى بعض الباحثين خطأ، عن حزنه على فقدانه طفلته وهي بعد في أولى سنوات عمرها. صحيح أن ماهلر فقد طفلة، لكن تلحينه تلك الأناشيد جاء سابقاً لموت الطفلة بسنوات، لا تالياً له. من هنا، فإن موسيقى ماهلر في تلك السلسلة من الأغاني التي طُبعت بكل ذلك المقدار الذي يمكننا أن نحس به، من الحزن، إنما كانت تستجيب للكآبة التي كانت تحملها القصائد نفسها التي لحنها ماهلر. وهذه القصائد هي من وضع الشاعر روكرت الذي كان كتبها متأثراً بموت أطفال من أسرته، لكنه عرف فيها كيف يعمم تجربة الموت والحزن أمام فقد الأحبة.
> إذاً، فإن هذه السلسلة من الأناشيد التي لحنها غوستاف ماهلر بين عامي 1900 و1902، لم تكن تعبيراً عن حزنة الخاص، بل عن حزن عام أمام الطفولة الموؤودة. ولم تكن تلك السلسلة أول سلسلة أناشيد يلحنها صاحب سيمفونية «التيتان»، إذ إنه كان سبق له أن لحّن ثلاث سلاسل أخرى من الأناشيد: «أغاني الشباب» 1882 و «أغاني الرفيق المتشرد» 1884 و «بوق الطفل الرائع» 1888 - 1889. أما أناشيده الأشهر والتي صنعت له مكانته اللاحقة، كواحد من أعظم ملحني الأغاني في اللغة الألمانية، إلى جانب شوبرت، وهي «أغاني الأرض»، فإنه لحنها خلال سنوات حياته الأخيرة ولم تعرف أو تنشر إلا في عام 1911، أي بعد رحيله بشهور قليلة.
> تتألف سلسلة «أناشيد الأطفال الميتين» من خمس أغانٍ لحنت للصوت العريض (باريتون) مع الأوركسترا، وفي شكل يجعل الصوت والأوركسترا يقدمان معاً ما يمكن تشبيهه بـ «كونشرتو للصوت البشري مع الأوركسترا». وحرص ماهلر، بحسب الدارسين، خلال اشتغاله هنا على تلحينه أشعار روكرت الحزينة، أن يضفي على موسيقاه نفسها طابعاً رمزياً صرفاً، إذ إن الموسيقى هنا جاءت مختلفة جداً عن كل ما كان سبق ماهلر أن صاغه في هذا المجال الغنائي. من هنا، فإن كثراً من نقاد الموسيقى يقولون إن هذا العمل، بأناشيده وألحانه المنوعة، جاء ليفتح أمام تلحين هذا النوع من الأناشيد، أبواباً جديدة لم يكن لها مثيل في السابق، وكذلك أبواباً جديدة أمام عمل ماهلر نفسه. فالحال أن ما لدينا هنا، ليس ماهلر القديم، ماهلر الحقبة السابقة الذي كان يهتم أكثر ما يهتم بالتعبير عن الجانب الأسطوري في التاريخ البشري، محاولاً أن يكمل ما كان بدأه سابقه الكبير فاغنر في المجال الأوبرالي، بل ماهلر جديد همه أن يعبّر عما هو يومي، عن «الحزن العادي»: حزن البشر أمام الموت وأمام عذاب البشر. والحال أنه عرف كيف يعبّر عن هذا الأمر بقوة وإبداع لا يمكن أن يتوافرا إلا لمن عاش، بنفسه، تجربة الحزن والقلق والشعور بالخواء وبالموت يحيط به من كل جانب.
> من هنا، يقول الباحثون عادة أن هذه كانت من الناحية الكونولوجية، الألحان الأولى الكبرى التي يتبدى فيها عمل ماهلر ذاتياً، وليس موضوعياً، علماً أن موسيقاه السابقة كلها، وكذلك نظرياته المعروفة في الموسيقى والتلحين، كانت تدعو إلى نوع من الموسيقى الموضوعية. وهي الدعوة نفسها التي ورثها عنه وسار على هديها، لاحقاً، بعض كبار موسيقيي النمسا، وفيينا بخاصة، عند الحد الفاصل بين القرنين التاسع عشر والعشرين، ما أنتج شتى أنواع الموسيقى الموضوعية، والتقنية، على أيدي شوينبرغ وآلبنبرغ وفييرن وصولاً إلى الموسيقى اللالحنية والاثني عشرية - وعلى الأقل وفق ما يفيدنا في تحليلاته المعمقة في هذا المجال الفيلسوف ثيدور آدورنو في كتابه العمدة «فلسفة الموسيقى الجديدة»... لكن هذه حكاية أخرى، من الصعب ربطها بموسيقى ماهلر في سنواته الأخيرة، وإن كان ثمة ألف سبب وسبب يربطها بموسيقاه الموضوعية، لا سيما الأسطورية منها.
> في «أناشيد الأطفال الميتين» ثمة، في التوزيع الأوركسترالي، وفي التركيز على الآلات الوترية - لا سيما في الفواصل الحزينة بين المقاطع المغناة - ما يقترب اقتراباً حثيثاً من رومانطيقية كان شوبرت وفاغنر، عملياً، من آخر أقطابها، فإذا بماهلر يستعيدها خلال تلك السنوات الأخيرة من حياته، لا سيما في هذه السلسلة حيث يمكن المستمع الحاذق أن يلاحظ كثافة التوزيع الأوركسترالي، وكيف تبدو «الموسيقى صمّاء حيناً، وحادة في أحيان أخرى» وبالتالي قادرة، حتى أكثر من الصوت البشري المنفرد الذي يغني هنا، على التعبير عن أقصى درجات الحزن واليأس. هنا، قد يكون مفيداً ذكر عناوين الأغاني لما تحمله من دلالات حسية: «الفجر سيشرق منطلقاً من يوم جديد» - «أنا أعرف لماذا أرواحكم لها كل هذا الحزن» - «حين تكون الأم التي تعيش حدادها...» - «آه كم أحلم بأننا معاً...» - وأخيراً «عبر هذه العاصفة...».
> هنا، لا بد من أن نذكر بأن غوستاف ماهلر - المولود عام 1860 في كالخت التشيخية، والراحل عام 1911 في فيينا التي عاش فيها معظم سنوات حياته - لحّن «أناشيد الأطفال الميتين» في وقت كان فيه يشتغل بجدية على سيمفونيته الرابعة من مقام صول كبير وهي - ويا لغرابة الأمر - تعتبر من أكثر سيمفونياته مرحاً وإقبالاً على الحياة. ما يتناقض مع الروح التي هيمنت على سيمفونيته التالية «الخامسة» من مقام دو صغير، وهي التي تشبه في كتابتها الروح المسيطرة على «أناشيد الأطفال الميتين»، بل إن ثمة من الباحثين من يرى أن في «الخامسة» إحساساً بالشوق والحنين إلى الكلام المغنى، وهي سمة يرى بعض النقاد أنها طبعت على الدوام تلحين ماهلر الأوركسترالي معتبرين أن في هذا البعد الحنيني إلى الصوت البشري والعواطف المعبر عنها في اللغة، يكمن الطابع الإنساني العميق الذي لم يكفّ غوستاف ماهلر عن التعبير عنه في معظم ما كتب من موسيقى، سواء كانت أسطورية أو واقعية، غنائية أو أوركسترالية، ما يجعله يعتبر من «أكثر الموسيقيين إنسانية في تاريخ الموسيقى».
(الحياة 2014-07-14)