«بدم بارد» لترومان كابوتي: كاتب يسبر أغوار القتل المجاني

لا تعدم الحياة الثقافية الأميركية مناسبة للعودة إلى الاهتمام بالكاتب ترومان كابوتي، وكانت آخر المناسبات انتحار الممثل فيليب سايمور هوفمان قبل أسابيع وهو الذي كان لعبه دور كابوتي في فيلم تحدث عن الكاتب وظروف وضعه كتابه الأشهر «بدم بارد»، واحداً من أقوى تجلياته الفنية. صحيح أن كابوتي كان، وحتى من قبل «بدم بارد» بسنوات طويلة، معروفاً ويُنظر إليه بصفته واحداً من أبرز أبناء جيل الأربعينات والخمسينات في الأدب الأميركي المعاصر، غير أن شهرته كانت محدودة في إطار الأوساط الطليعية والقارئة. ثم حين حُقّق فيلم «إفطار عند تيفاني» عن واحدة من رواياته، اعتبر في شكل سطحي «كاتباً خفيفاً يهتم بتصوير الحياة الاجتماعية وربما المخملية في نيويورك» من دون أن يُنظر إليه، حتى حينها، النظرة التي يستحق. ولكن حين ظهر كتاب «بدم بارد»، ثم بخاصة حين حوّل هذا النص إلى فيلم سينمائي حققه ريتشارد بروكس، صار ترومان كابوتي بين ليلة وضحاها، من أشهر كتّاب الولايات المتحدة... وأعيد النظر في نصوصه القديمة كلها وراحت طبعات جديدة تصدر من كتبه، ليصبح في صف أول بين روائيي جيله، كاشفاً في الوقت نفسه عن شخصية استفزازية غريبة الأطوار تقف على الضد تماماً من كل الآمال التي كان حلم النجاح الأميركي يبثها. بل إن «إفطار عند تيفاني» نفسها أُعيد النظر فيها لتعطي أبعاداً جديدة، أكثر عمقاً بكثير من ذي قبل. واللافت في الأمر كله أن «بدم بارد» التي اعتبرت «رواية أميركية معاصرة بامتياز» لم تكن رواية على الإطلاق... وكان الأميركيون كلهم يعرفون هذا. كانت أقرب ما تكون إلى التحقيق الصحافي... ففي ذلك الحين (الستينات من القرن العشرين، وعلى رغم أن عقوداً طويلة كانت مضت منذ صاغ اميل زولا تفرّسه في باريس الحثالة وحياتها اليومية على شكل روايات) لم تكن الحواجز قد زالت بين الرواية الخيالية والنصوص الواقعية: لم يكن قد اشتهر بعد ذلك النوع الذي سيعرف باسم «الصحافة الجديدة» المؤلف من تحقيقات ونصوص تنطلق من واقع حقيقي لتتخذ، على يد الكاتب، طابعاً روائياً ممتعاً وقاسياً في آن معاً.
> الحقيقة أن كتاب «بدم بارد» ينتمي إلى هذا النوع تماماً، بل هو واحد من أقوى وأجمل نصوص «الصحافة الجديدة»، وليس فقط لأن ترومان كابوتي كتبه، أصلاً، على شكل تحقيق صحافي انطلاقاً من أحداث واقعية، بل كذلك لأنه لم يفوت مناسبة إلا وأعلن فيها ذلك، نافياً عن هذا النص صفة رواية، التي ألصقت به. وكان تحويل «بدم بارد» بعد ذلك إلى فيلم سينمائي، مناسبة دفعت الكاتب إلى التأكيد من جديد على أن الأحداث هي، هنا، من فعل الأقدار والظروف الاجتماعية، أما جهده هو واجتهاده فكانا في انصرافه إلى تدوينها من دون تدخل أساسي منه، اللهم إلا في مجال التوقف في النص بين الحين والآخر، عند دوافع الشخصيتين الأساسيتين، والخلفيات السيكولوجية التي دفعتهما إلى اقتراف ما اقترفا.
> وما اقترفته هاتان الشخصيتان كان بالتحديد، جريمة جماعية بدم بارد. جريمة اكتشف الكاتب أنها مجانية، ارتكبت بالفعل ذات يوم أوائل ستينات القرن العشرين، وكلف هو بالتحقيق الصحافي فيها لحساب مجلة شهرية كان يكتب فيها، فنشر التحقيق على حلقات كانت من الدقة والقسوة بحيث أقامت أميركا ولم تقعدها، خصوصاً أن كابوتي أراد أن يبرهن في النصّ الذي كتبه على الخلفية السيكولوجية والحياتية التي تجعل المجرم مجرماً. فإذا كان القاتلان هنا، في هذه الجريمة، قد أبديا برودة وقسوة غير متوقعين في الجريمة التي اقترفاها، فما هذا إلا لأن ثمة قسوة مرعبة رافقت طفولتهما وسنوات مراهقتهما. مع هذا، وعلى رغم أن كابوتي كتب هذا وبرهن عليه، فإنه لم يسع ولو للحظة في كتابه إلى تبرير الجريمة... أو الدفاع عن مرتكبيها. كل ما في الأمر انه أراد من خلال اللغة أن يصنع مرآة ويدفع المجتمع إلى أن ينظر إلى نفسه فيها. ويقيناً أنه نجح في مسعاه، طالما أن هذا النص أحدث تغييرات جذرية في العقلية الاجتماعية الأميركية.
> يروي الكتاب حكاية الشابين بيري سميث وديك هيكوك اللذين ما إن خرجا من سجن كانا معتقلين فيه، حتى حدّث الثاني رفيقه عن خبطة يمكن أن يفعلاها، مؤكداً له أن القيام بها، لا يحتوي أي قسط من المجازفة، لأن ليس في المكان الذي ستتم فيه أي شهود. وهذه الخبطة تتعلق بسرقة المدعو هربرت كلاتر، الذي يعيش مع زوجته بوني وطفليهما نانسي وكينيون في مزرعة نائية معزولة في منطقة هولكومب في تكساس. وحين يتوجه بيري وديك إلى مزرعة كلاتر، يوم 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1959، يسبقهما قلم كابوتي إلى المزرعة، حيث يصف لنا كيف أن نانسي كلاتر واقفة تصلي كعادتها، عند المساء هي التي يعمر قلبها بالإيمان... ثم يقفز النص مباشرة ساعات لاحقة تكون الجريمة فيها قد تمت: قضى بيري وديك على أفراد تلك العائلة الصغيرة من دون وازع ضمير، بدم بارد تماماً... غير أن الجريمة سرعان ما تكتشف مرعبة: جريمة أسفرت عن أربع ضحايا. لم يعرف الجيران لهم أعداءً أو أي خلاف مع أحد. وهنا يبدأ التحقيق البوليسي الذي يتولاه المحقق آلفن ديوي. وإذا كنا نحن القراء، نعرف كل ما حدث منذ البداية، فإن الشرطة لا تعرف، لكن ديوي يكتشف بالتدريج، مجرى الأحداث، وقبل أي شيء آخر يكتشف أن ثمة قاتلين... وأن هذين لم يسرقا سوى 40 دولاراً ومذياع ومنظار مقرّب. إذاً كيف حدث هذا ولماذا؟ في انتظار الجواب تعلن الشرطة عن مكافأة قيّمة لمن يدلي بأي معلومات. وهنا ننتقل إلى ديك الذي نجده يقوم بعدد من المشتريات في مخزن غير بعيد... وبين المشتريات ثياب لرفيقه بيري. في تلك الأثناء تقبض الشرطة على مشبوه يتبين أنه معوق عقلياً... ولكن يحدث في الوقت نفسه أن شخصاً يدعى فلويد ويلز يقول إنه كان سجيناً مع ديك وكان حدثه عن كلاتر وأسرته وعن عيشهما في مزرعة معزولة. وحين تسعى الشرطة للقبض على المشبوهين وقد صار بعض الشبهة يحوم حولهما، يكون هذان قد عبرا إلى المكسيك. وهنا يزور المحقق ديوي السيد سميث والد بيري الذي يتكلم عن ابنه بعاطفة وتأثر شديدين، قائلاً إن بيري كان طوال حياته يحلم بالذهاب إلى يوكانان المكسيكية ليصطاد في أعماق البحر هناك. في النهاية وإذ يشعر القاتلان بشيء من الاطمئنان يعودان إلى الولايات المتحدة... وخلال الطريق يحاول ديك قتل رجل طيب أقلهما في سيارته، لكن السائق ينجو في الوقت الذي تكون فيه الشرطة قد عثرت على سلاح الجريمة في منزل آل هيكوك. وفي النهاية تقبض الشرطة على ديك وبيري في لاس فيغاس، وهما يحاولان سرقة سيارة. وبسرعة يوجه ديك الاتهام إلى رفيقه... وهذا، أمام هذه الخيانة يعترف بكل شيء ويروي ما حدث ليلة الجريمة قائلاً إنهما كانا يريدان القيام بسرقة مال قيل لهما إنه موجود في المزرعة، لكنهما لم يعثرا عليه و»اكتفيا بقتل الشهود الأربعة». وبعد هذا الاعتراف يأتي زمن المحاكمة، ويعترف الاثنان بأنهما مذنبان... لكن إعدامهما يتأخر 5 سنوات، ثم ينفذ يوم 14 شباط (فبراير) 1965.
> هذا كله، وعلى هذه الشاكلة، يرويه ترومان كابوتي في «بدم بارد» وبلغة بسيطة هادئة وبتقطيع فني مدهش كان هو ما أعطى الانطباع بأن هذا النص رواية أكثر منه تحقيقاً صحافياً. لكن كابوتي أصر على أنه إنما كتب تحقيقاً، فاتحاً بهذا باباً عريضاً لنوع أدبي متجدد، سرعان ما نجده يعم الحياة الثقافية مالئاً إياها بنصوص تستعيد الأحداث القديمة متحدثة عنها مؤكدة أن الواقع يكون في مرات عدة أكثر غرابة من الخيال. وترومان كابوتي (1924 - 1984) اعتبر دائماً، بحسب تعبير الباحث مارك سابورتا «الطفل المدلل» للأدب الأميركي... وهو إذ بارح جنوبه الذي كانت فيه بداياته (مثل تينيسي ويليامز وويليام فوكنر) سرعان ما أقام في نيويورك ليصبح واحداً من كبار كتّابها. ومن أعماله المهمة «أصوات أخرى، غرف أخرى» و «ثلاث ليالٍ وقصص أخرى»، «قيثارة العشب»، «صلوات مستجابة»... إضافة إلى نصوص رسم فيها صوراً إقليمية لشخصيات هوليوودية (مثل مارلون براندو، وشارلي شابلن ومارلين مونرو...) ومدن (مثل مراكش)...
(الحياة 2014-07-15)