حرب المنازل

"حرب المنازل"، هي ما يسمى بلغة العسكر "سياسة الأرض المحروقة"، وهو ما تقوم به إسرائيل حاليا في هذه الحرب المسعورة التي تشنّها في قطاع غزة منذ أكثر من أسبوع، وهذا يستتبع قتل المدنيين العزّل، حيث أشار تقرير صحفي أن نسبة ضحايا الغارات الإسرائيلية من المدنيين رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا بلغت 78 بالمئة، وهؤلاء الضحايا بالقطع لم يكونوا مقاتلين يحملون السلاح، سوى أنهم رصيد بشري فلسطيني للحاضر والمستقبل، وقد شمل الاستهداف الإسرائيلي ما نسبته 60 بالمائة من البنى التحتية في القطاع المقاوم والصامد.
شريعة السماء، وكذلك القوانين الوضعية التي أقرّتها الأمم المتحدة ووافق عليها العالم أجمع، فرضت قواعد أخلاقية في الحروب تلزم بحماية المدنيين وممتلكاتهم، لكن جيش إسرائيل منذ أن كان عبارة عن عصابات مسلّحة قبل العام 1948 وما بعد ذلك، غير معني بهذه القواعد ولا يعترف بها، والشواهد لمن يسعى للمزيد من المعرفة كثيرة .
جيش إسرائيل نشأ على عقيدة قتالية ركناها الأساسيان: استخدام قوة نيران غزيرة وبكثافة من كل أصناف الأسلحة، واستهداف المدنيين في الحرب، وقتل أكبر عدد منهم، دون النظر إلى الاعتبارات الأخلاقية، للتأثير على الطرف الآخر، وهذا ما شاهدناه في كل عدوان شنّه اليهود الصهاينة ضد العرب في حرب العام 48 و56 و67 و73 وفي لبنان وقطاع غزة على الدوام.
الحروب في النهاية تقاس بعدد ضحاياها من الجيوش والمدنيين والخسائر المادية في الممتلكات من الطرفين، ولكن لا وجه للمقارنة في الحرب التي تدور رحاها في القطاع بين قوّة المقاومة الفلسطينية وإمكاناتها القتالية، وبين قوّة جيش الاحتلال، الذي يعتمد سياسة التدمير القائمة على امتلاك أدوات القوة الساحقة والتفوق العسكري المذهل، والمدعوم بتواطؤ عالمي رهيب يستخدم الموازين المزدوجة والمفاهيم المقلوبة.
العدو الصهيوني لن يتوقف عن عدوانه إلى أن يرفع قطاع غزة الراية البيضاء، ويذعن لمطالبه، ومجرد صمود الغزّيين ومقاومتهم يعني الكثير في قاموس المعارك والحروب، ويعني الكثير أيضا بالنسبة لإسرائيل، فهي لن تستطيع أن تخرج من هذه الحرب لتدّعى النصر على الفلسطينيين ومقاومتهم في قطاع غزة، ولا حتى في الضفة الغربية، فهي لــ الآن لم تتمكن بقوّتها العسكرية وأجهزة مخابراتها من حل لغز المستوطنين الثلاثة القتلى قرب المجمّع الاستيطاني "غوش عتصيون"، فمعايير النصر والهزيمة كما علمّنا التاريخ، لا تقاس رغائبيا، ووفق معايير ثابتة وجامدة.
الشعب الفلسطيني الموزّع على مساحات الوطن المحتل يقاوم ويصمد، وهو يفعل ذلك منذ عقود، ويمكنه الفعل أكثر إذا ما توفّرت لقيادته حرية الإرادة والقرار، ويذكّرنا التاريخ القريب أن الجيش النازي أباد تقريبا مدينة ستالين غراد على قاطنيها، وهدم كل منازلها، ولكنها في النهاية قصمت ظهر جيش هتلر، وكانت نقطة تحول في مسار الحرب العالمية الثانية .
هذه المرة، بدا الأداء الفلسطيني في ميادين المواجهة على الصعيدين السياسي والقتالي أفضل مما كان عليه في مرات سابقة، فمثلا لم نسمع تصريحات من رجالات السلطة في رام الله تندد بــ "الصواريخ العبثية" ولاحظنا منذ اليوم الأول للعدوان على فلسطينيي القطاع تنديدا بالجرائم الإسرائيلية واستباحة الاحتلال للدماء الفلسطينية في الضفة الغربية والقطاع .
لكن اللافت أن السلطة لم تسمح باندلاع ثورة غضب في مدن الضفة مع أن توسيع أرض المواجهة بكل أشكالها مع العدو في هذا الوقت تحديدا من شأنه أن يربك حكومة الاحتلال، لتتحوّل الانتفاضة والمقاومة إلى الكفاح المسلّح وثورة شعبية تعمل بكل قدراتها للتحرر من الاحتلال البغيض.
الحرب الإجرامية التي يشنّها اليهود الصهاينة ضد الفلسطينيين لم تضع أوزارها بعد، وغزة كعهدها دائما لن تركع، وسيكون المدنيون الفلسطينيون ومنازلهم وممتلكاتهم عرضة لضراوة النيران الإسرائيلية وكثافتها، كما حصل في الاعتداءات السابقة... وإلى الخميس المقبل.
( الشرق 18/7/2014 )