العدوان على غزة يكشف عمق الانقسام الفلسطيني
(إذا لم يكن العدوان حافزا كافيا للتوافق على استراتيجية فلسطينية وطنية تنهي أي مفاوضات لا تكون المقاومة أساسا لها فإنه لن يمضي وقت طويل قبل أن يقود إلى إجهاض المصالحة وانهيار حكومة الوفاق الوطني وهذا هدف معلن للعدوان والاحتلال ودولته)
لا يبدو الحديث مناسبا عن هشاشة المصالحة الفلسطينية في وقت يتطلب تعزيز وحدة الصف الفلسطيني في مواجهة الحرب العدوانية الثالثة خلال ست سنوات التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، لكن الرئاسة الفلسطينية تبدو كمن انساق إلى حصار سياسي عربي ودولي يعزز العدوان على القطاع بالضغط على المقاومة الوطنية فيه للقبول بشروط الاحتلال لوقف إطلاق النار بما يعني ضمنا تحميل المسؤولية عن العدوان للمقاومة لتفوت الرئاسة بذلك فرصة ذهبية لتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ المصالحة.
لقد وصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس هذا العدوان بأنه "مبيّت" و"حرب إبادة شاملة" لكنه ما زال مترددا في التقدم بطلب انضمام "دولة فلسطين" إلى محمكة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية لمساءلة دولة الاحتلال عن جرائم الحرب التي ترتكبها خلال عدوانها المستمر على شعبه في القطاع المحاصر.
وما زال مترددا كذلك في تبني مطالب المقاومة لوقف إطلاق النار وهي في معظمها مطالب إنسانية لا سياسية تتلخص في رفع الحصار عن القطاع ووقف العدوان على الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال في القطاع وفي الضفة الغربية على حد سواء.
وهي مطالب وصفها حتى أمين عام اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه، الذي لا يمكن أبدا اتهامه بمناصرة المقاومة أو حركة حماس، بأنها "مطالب كل الشعب الفلسطيني في كل مكان ويجب الوقوف معها ودعمها"، لكنه، مثل عباس، يريد التفاوض عليها "بعد" وقف إطلاق النار وهو ما ترفضه المقاومة وهي محقة في رفضها في ضوء تجربة التفاوض الفاشلة الممتدة منذ عام 1991 مع دولة الاحتلال.
لقد كشف العدوان الإسرائيلي الجديد عمق الانقسام الفلسطيني بين استراتيجية التفاوض واستراتيجية المقاومة، وإذا لم يكن هذا العدوان حافزا كافيا للتوافق على استراتيجية فلسطينية وطنية تنهي أي مفاوضات لا تكون المقاومة أساسا لها فإنه لن يمضي وقت طويل قبل أن يقود التناقض بين الاستراتيجيتين إلى إجهاض المصالحة وانهيار حكومة الوفاق الوطني والعودة إلى الانقسام، وهذا هدف معلن للعدوان والاحتلال ودولته.
فمنذ أعلنت حكومة الوفاق في الثاني من حزيران/يونيو الماضي أعلنت حكومة الاحتلال الحرب عليها، وخيرت الرئيس عباس بين "السلام" معها وبين المصالحة مع المقاومة، وتعهدت بمنع حركة حماس من المشاركة في الانتخابات المقبلة المقررة بموجب اتفاق المصالحة، وطلب مندوبها في الأمم المتحدة بحل حكومة الوفاق، واجتاحت الضفة الغربية، وشنت حملة اعتقالات واسعة لكوادر حماس وغيرها من حركات المقاومة وأنصارها شملت سبعة وثلاثين عضوا في المجلس التشريعي، وأعادت اعتقال الأسرى المحررين.
وبينما تتجلى الوحدة الوطنية في أروع صورها في القطاع المحاصر على قاعدة المقاومة وفي مواجهة العدوان، معززة بوحدة شعبية تلتف حولها في القطاع والضفة الغربية وفلسطين 1948 وفي مخيمات اللجوء والمنافي والشتات، تبدو الرئاسة قد اختارت "السلام" مع الاحتلال.
فعلى سبيل المثال، يوجد إجماع فلسطيني على ضرورة وقف العدوان المتواصل على القطاع بشروط المقاومة التي تؤيدها معظم الفصائل والقوى الوطنية المنضوية في إطار منظمة التحرير، إلا الرئاسة التي تتقاطع مع شروط الاحتلال لوقف إطلاق النار.
والموقف الأمثل طبعا لوحدة الصف الفلسطيني في مواجهة العدوان الذي يعبر عن النبض الوطني لحركة فتح، التي يمثلها رسميا الرئيس عباس، قد عبر عنه القيادي في فتح الأسير مروان البرغوثي عندما ناشد الرئيس وقيادته التوجه إلى غزة للالتحام بشعبه ومقاومته هناك.
فوحدة الموقف في مواجهة العدوان التي كانت سوف تعززها استجابة الرئيس لنداء البرغوثي كانت بالتأكيد سترسخ أرضية صلبة لتقريب وجهات النظر المتباينة استراتيجيا، وستعلن عنوانا فلسطينيا موحدا يحول دون فرض حصار سياسي دولي يعزز العدوان، وكانت ستضع الجامعة العربية والدول الإسلامية مباشرة امام مسؤولياتها بدلا من توفير مهرب فلسطيني لها للتنصل من هذه المسؤوليات بالموافقة على المبادرة بصيغتها الأولى.
إن العودة إلى الوضع الذي كان قائما في القطاع قبل العدوان هي جوهر المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار، التي وافقت عليها حكومة الاحتلال ورحب بها الرئيس عباس و"الرباعية" الدولية مجتمعة بلسان مندوبها توني بلير ومنفردة بألسنة الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والأمين العام للأمم المتحدة، والتي أصبحت مبادرة عربية بموافقة جامعة الدول العربية عليها، ليتحول دور الرئيس الفلسطيني عمليا من قائد لشعبه إلى وسيط لديه لقبول "تهدئة" بشروط الاحتلال.
فالرئاسة تريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والعودة إلى اتفاق "التهدئة مقابل التهدئة" الذي أبرم بوساطة مصر وضمانتها عام 2012 والعودة إلى اتفاق معبر رفح المبرم عام 2005 كمدخل على الأرجح لإعادة القطاع إلى سيطرتها وهذا هدف تدّعي دولة الاحتلال بدعم من راعيها الأميركي أنه أحد أهداف عدوانها المتواصل، وهو ادعاء خادع يجب ألا يكون مسوغا لأي تقاطع فلسطيني مع شروط دولة الاحتلال لوقف العدوان خصوصا للرئاسة الفلسطينية التي تكرر الشكوى من أنها "سلطة بلا سلطة" حيث من المفترض أن تكون لها سلطة في الضفة الغربية.
ومن الواضح أن "الشرعية" الفلسطينية التي منحتها موافقة الرئاسة على المبادرة المصرية قد سهلت تبني كل "شركائها" في "عملية السلام" لها، وهو ما يرقى إلى حصار سياسي للمقاومة في محاولة لحرمانها من أي استثمار سياسي لتضحيات حاضنتها الشعبية في القطاع والضفة أو استثمار انجازات المقاومة وبطولاتها وإبداعاتها في مواجهة العدوان الجديد.
ومن الواضح كذلك أن جامعة الدول العربية ما كانت لتوافق بسهولة على منح شرعيتها للبمادرة المصرية لو لم يصادق عليها الرئيس الفلسطيني الذي لم يعبأ لا هو ولا واضعي المبادرة ولا الموافقين عليها والمرحبين بها بأخذ رأي المقاومة فيها وهي المعنية الأولى بها، ولم يعبأ حتى بأخذ رأي شركائه في منظمة التحرير بشأنها كما أعلنت الجبهة الشعبية على سبيل المثال.
وقد أكد عباس في القاهرة أن المبادرة المصرية انطلقت بطلب منه. وتقول التقارير إن مبعوث الرباعية الدولية توني بلير هو من صاغها بعد التشاور مع دولة الاحتلال ومصر، وقصدت الأطراف الثلاثة دفع المقاومة إلى رفضها بعدم استشارتها، ليحصل رئيس حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو على هدية مجانية أتاحت له أن يصرح قائلا: "سوف تمتلك إسرائيل كل الشرعية الدولية" للموافقين على المبادرة "لتوسيع نشاطها العسكري" في القطاع، وهو ما ترجمه في بدء عدوانه البري الخميس الماضي.
لقد أكد عباس بعد لقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الخميس الماضي تمسكه بالمبادرة المصرية، بعد رفض المقاومة الرسمي لها بصيغتها المعلنة، بالرغم من تمسكها بدور مصر كوسيط لأسباب جيوبوليتيكية واضحة، وبعد الشروط التي أعلنتها فصائل المقاومة للموافقة عليها معدلة بشروطها.
وفي هذا السياق جاء لقاء الرئيس عباس مع ممثلي حماس والجهاد في القاهرة.
ولا تفسير لكل ذلك سوى الإصرار على فرض "تهدئة" على المقاومة كأمر واقع، ليصبح الهدف المتوقع لزيارة الرئيس عباس لتركيا أمس الجمعة هو طلب مساعيها الحميدة للضغط على حركة حماس للموافقة عليها، وهو ما أكده وزير الخارجية الفرنسي رولان فابيوس في القاهرة في اليوم ذاته عندما أعلن أن الرئيس عباس طلب منه التوسط لهذا الغرض لدى قطر وتركيا.
إن خطاب الرئيس عباس بعد بدء العدوان كرر تمسكه بالمفاوضات بمرجعياتها السابقة، وفي رأسها "نبذ" العنف والمقاومة، فهذا هو مسوغ بقاء المؤسسات الفلسطينية التي يرأسها بموافقة دولة الاحتلال وراعيها الأميركي.
وفي مواجهة العدوان غلّب في خطابه "الإنساني" على الوطني عندما غمز من قناة المقاومة بالحديث عن "تجار الحروب"، فمهد بذلك للقبول بوقف "إنساني" للعدوان يوقف ما وصفه ب"جريمة الإبادة" من دون أن يضطر الاحتلال لدفع الثمن، وهذا هو ملخص المبادرة المصرية التي وافق عليها لإثبات صدقية التزامه ب "عملية السلام" ولو من جانب واحد ومن دون معاملته بالمثل.
في الحادي عشر من هذا الشهر أعلن رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحفي أنه "لا يمكن أن يكون هناك أي وضع، بموجب أي اتفاق، نتخلى فيه عن السيطرة الأمنية على الأرض الواقعة غربي نهر الأردن"، حتى لا تتحول الضفة الغربية إلى قاعدة للمقاومة تهدد "أمن" دولة الاحتلال في عقر دارها كما هو حال قطاع غزة اليوم، أي أنه لن يقبل بأي دولة فلسطينية ذات سيادة فيها، لكن الصواريخ الفلسطينية المنطلقة من القطاع لتطال معظم فلسطين المحتلة عام 1948 قد أسقطت هذه الحجة الآن.
ومع ذلك ما زال الوهم يساور عباس بإمكانية إقامة دولة فلسطينية هناك بموافقة دولة الاحتلال من خلال التفاوض معها وما زال الرئيس عباس يصر على رقص "التانغو" منفردا، ليفوت بذلك فرصة ذهبية للتسلح بالمقاومة والوحدة الوطنية كي ينهي احتلالا أسقطت المقاومة كل ذرائع دولة الاحتلال "الأمنية" لاستمراره.