«الدرجات الـ39» لجون باكان: الأدب الشعبي لمحاربة السلطة السرية

في العام 1935 حقق ألفريد هتشكوك، الذي كان لا يزال مواطناً ومخرجاً سينمائياً انكليزياً حتى ذلك الحين، أي قبل أن يهاجر الى الولايات المتحدة ليصبح لاحقاً واحداً من كبار سينمائيي هوليوود، حقق واحداً من أشهر أفلامه الأول: «الدرجات التسع والثلاثون»، وهو الفيلم الذي أعلن فيه، بأسلوب فني شيق، بداية حربه ضد النازية، وإن كان في شكل موارب. ذلك ان الفيلم هو قبل ذلك عمل عن الغموض والصراعات الخفية والبراءة، مستقى أصلاً من رواية كتبت في العام 1915، أي قبل زمن طويل من ولادة النازية التي حقق هتشكوك فيلمه لمحاربتها. والحقيقة أن رواية «الدرجات التسع والثلاثون» تظل العمل الأشهر لمؤلفها الذي يكاد اسمه يكون منسيّاً في أيامنا هذه: الاسكتلندي جون باكان، الذي اشتهر في زمنه بعشرات الروايات، لكن تقلبات حياته وأفكاره تظل أكثر شهرة وحضوراً من كل تلك الروايات. وحسبنا للتيقن من هذا أن نذكر ان هذا الكاتب الذي ولد ابناً لكاهن فقير، صار لاحقاً حاكماً لكندا وعضواً في مجلس العموم البريطاني، وصديقاً لكبار زعماء العالم. كما انه كان هو من تحدث منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وبعد تجربة أفريقيا الجنوبية، وسلسلة خدمات قدمها للحكومة البريطانية - وغالباً كعضو فاعل في الاستخبارات الانكليزية -، عن ان «افريقيا يجب أن تعود الى الأفارقة» داعياً الى انهاء الاستعمار. كما انه كان أول من تحدث في العام 1916 عن الصحوة السياسية والروحية للإسلام، التي ستسود في القرن العشرين. كما أسهب في الحديث عن الدور المتزايد في «عالم اليوم للإشاعات والحروب النفسية» وعن استشراء استخدام «الأسلحة الجرثومية والبكتريولوجية»، كما عن صراع الأيديولوجيات طوال الأزمان المقبلة.
> في كل هذا كان جون باكان، فريداً في أفكاره. لكن هذا الأمر من الصعب اكتشافه من خلال فيلم هتشكوك المأخوذ عن أشهر رواياته. فالأمر يحتاج، من ناحية، الى قراءة الرواية، ولكن من ناحية ثانية الى قراءة سيرة باكان الذاتية التي لا شك في أن المرء سيصاب بالدهشة إذ يعرف انها طبعت في 27 طبعة خلال السنوات التي تلت صدور طبعتها الأولى وموت كاتبها، في العام 1940... إذ خلال سنوات الحرب ها هم البريطانيون يقبلون كل هذا الإقبال على قراءة سيرة ذاتية لمؤلف بالكاد يعرفون شيئاً عن حياته وأفكاره وحتى عن رواياته. فهو الذي كان اسكتلندياً، لم تكن له أبداً، شهرة مواطنين كبار له مثل والتر سكوت وآرثر كونان دويل وروبرت لويس ستيفنسون. ومع هذا لا يمكن أحداً أن يجهل «الدرجات التسع والثلاثون». والفضل في هذا لألفريد هتشكوك بالتأكيد. فعمّ تتحدث هذه الرواية؟
> باختصار تتحدث رواية باكان الشهيرة هذه عن شاب غريب يلتقي امرأة غريبة بدورها في صالة رقص... وبعد تعارف وحديث متبادل بينهما يجد انها تبحث عن مأوى لليلتها تلك، فيوافق على إيوائها في منزله. غير انه حين يفيق في صباح اليوم التالي يعثر عليها ميتة في صالون البيت... لكنها فيما تلفظ أنفاسها الأخيرة تسرّ اليه باسم مكان محدد في سكوتلندا. لاحقاً حين تُكتشف الجريمة يكون من الطبيعي لرجال الشرطة أن يتهموا الشاب بقتلها، لكنه هو يتمكن من الفرار متوجهاً الى ذلك المكان الاسكتلندي الذي أشارت اليه المرأة، أملاً في أن يعثر هناك على سر موتها ويؤكد بالتالي براءته. وبالفعل يصل الشاب الى المكان، فإذا به يجده وكراً لجمعية سرية تتألف على الغالب من جماعة جواسيس يعملون لمصلحة الأعداء - وهؤلاء هم الذين سيتحولون في فيلم هتشكوك، الى مجموعة من العملاء النازيين، لكن تلك حكاية أخرى -. المهم ان هؤلاء الأعداء يكتشفون وجود الشاب فيبدأون بمطاردته، فيما يقوم رجال البوليس بدورهم بمطاردته من الناحية الأخرى. وخلال هربه، يجد الشاب نفسه في حافلة قطار حيث يتعرف هنا من جديد الى فتاة يروي لها مشكلته فتعرض عليه ان تساعده في مسعاه. وهكذا يترافقان ليصلا الى لندن وبالتحديد الى الصالة التي كان تعرّف فيها الى المرأة الأولى. وفي الصالة، قبل أن يصل رجال الشرطة ملاحقين إياه يتمكن من أن يوقع واحداً من فناني الاستعراض في زلة لسان، تكشف السر كله، ولو على حساب هذا الفنان الذي، إذ يكشف السر من دون ان يدري، يدفع حياته ثمناً لذلك... غير ان حياة هذا الفنان لن تذهب سدى، إذ إن رجال الشرطة يصلون في اللحظة المناسبة ويلقون القبض على الجواسيس، ما يؤدي الى تبرئة الشاب صاحبنا وارتباطه هذه المرة بالفتاة الجديدة التي ساعدته وستصبح بالتالي، حبيبته.
> بين يدي ألفريد هتشكوك صار العمل فيلماً مناضلاً كاشفاً ضد النازيين، ولكنه أضحى ايضاً نوعاً من الاحتفال بالبراءة - براءة الشاب المتهم - وانتصاراً لها. أما بين يدي جون باكان فالرواية أتت، بالأحرى، رواية عن السلطة والأسرار، ولا سيما السلطة السرية التي تطارد الناس بقوة بأسها وبقوة سريتها لتحقق أهدافاً لا تقل عن السيطرة على المجتمع، من طريق السيطرة على العقول، أكثر مما من طريق السيطرة على الأجساد. والحقيقة ان قضية «السلطة السرية» هذه، كثيراً ما شغلت بال باكان. ومن هنا نجد منظمة «الجواسيس» لديه تتخذ طابع الطائفة التي يشكل أعضاؤها عالماً منظماً وفاعلاً، لا يمكن آليته أن تتحطم إلا عبر المرور بالمخاطر... ولكن قبل ذلك بفضل «بطل بريء» توراتي في نهاية الأمر. وفي إطار هذا البعد التعبيري يكاد باكان يشبه غيره من الكتاب الانكليز الذين خاضوا دائماً لعبة مزدوجة: من ناحية خدموا أجهزة استخبارات بلدهم، وسياساتها، ومن جهة ثانية عبّروا في كتاباتهم وأفكارهم عن أبعاد من الصعب تصور تلاقيها مع تلك السياسات. ويكفينا ان نذكر هنا أسماء مثل غراهام غرين وأنطوني بارغس ورديارد كيبلنغ ولورانس داريل وأعمالهم، حتى تستبد بنا أسئلة ملحّة حول ما يبدو لنا هنا مزدوجاً. وهنا، في حال باكان، حسبنا ان نتذكر انه ارتبط خلال سنوات الحرب العالمية الأولى بصداقة مع لورانس العرب، حتى نندفع الى ملاحظة التشابه بين مواقف الاثنين وأفكارهما. فلورانس أيضاً تحدث عن صحوة الإسلام، سياسياً وروحياً، كذلك كان من الذين نادوا بإنهاء الاستعمار، والاستعمار الانكليزي خصوصاً، مع انه - وهذه حال باكان أيضاً - خدم ذلك الاستعمار وبرره في كتاباته وأعماله.
> ولد جون باكان العام 1875 في مدينة بيرت الاسكتلندية، وهو عاش حتى العام 1940، لكنه ظل دائماً مطبوعاً بالعالم الغامض لمسقط رأسه، ويصور أناساً يتحركون في شكل دائب، ما يجعلهم يبدون وكأنهم دائماً في مهمات سرية، وهذه الصور ستظل ترافق باكان طوال حياته، على رغم كل تقلبات تلك الحياة. أما في مجال كتاباته، فهو بدأ الكتابة باكراً، حيث كان أحد أوائل الكتاب الذين ساهموا باكراً في مطبوعة «الكتاب الأصفر» التي كانت رائجة في ذلك الحين (بدايات القرن العشرين). وهو بعد دراسته في جامعة غلاسكو ثم في جامعة أوكسفورد توجه الى لندن في العام 1900 ليصبح محامياً متمرناً. ومنذ ذلك الحين، وإذ أرسله لورد ميلنر ليساهم في حرب البوير في جنوب أفريقيا، منظماً الخدمات الطبية، صارت حياته ككاتب متوازية مع حياته كعامل في الحقل السياسي والعسكري ثم الاستخباراتي العام. وقد رفدته مهماته الكثيرة وسفراته، في أفريقيا والبلقان والشرق الأوسط، على عادة أمثاله من الكتاب الانكليز، بمواضيع رواياته وقصصه القصيرة التي سيكون أشهرها «النبي ذو المعطف الأخضر» و «طوق القسيس جان» و «ثالث مغامرات السيد كونستانس» و «معسكر الصباح» وغيرها من أعمال أقبل عليها، في حينه، القراء الانكليز، ولكن من دون أن تضمن له مكانة كبرى وأساسية في عالم الأدب... المكانة التي كان عليه انتظار صدور روايته المفضلة لديه «غابة الساحر» ثم سيرته الذاتية حتى يحصل عليها.
(الحياة 2014-08-05)