غزة تلهمنا .. وتعلمنا أيضا..!!

حين اشرت في هذه الزاوية،امس،الى بعض الفضائل والدروس التي وصلتنا من “المقاومة” في غزة ومن العدوان عليها، تعمدت ان اتجنب الحديث عن مسألتين:
احداهما تتعلق بالصورة “البشعة” التي رسمتها آلة البطش الصهيوني في كل مكان في غزة،وعدد الضحايا الذين سقطوا في حرب “الابادة” التي لم نر لها مثيلاً في تاريخنا المعاصر،والمسألة الثانية “الفشل “ التي منيت به الحكومة الاسرائيلية على كافة المستويات،العسكرية والسياسية ،والفزع الذي ارعب المحتلين على مدى شهر تقريباً،والسبب في ذلك انني ادرك تماماً ان الصورتين وصلتا الى القارىء والمتابع في كل مكان بفضل وسائل الاعلام التي تناقلت تفاصيل ما حدث،فيما لم تحظ “الفضائل” التي تشير الى الوجه الاخر من الصورة الا بالقليل من الاهتمام،زد على ذلك ان ما حدث في غزة وان كان “محنة” حرب لا يمكن لأحدنا ان يغطي على جرائمها وآلامها وخسائرها الا ان الاصرار على روايتها كنقطة سوداء فقط يحرمنا من التدقيق فيما وراءها من اسباب وما بعدها من مآلات كما يحرمنا ايضا من الامل ومن الخروج بما يلزم من عبر ودروس،ليس فقط في صراعنا الطويل مع المحتل الصهيوني وانما ايضاً في الانتقال باقطارنا من حالة السقوط والهوان والصراعات الداخلية الى التحرر والنهوض والعيش بكرامة وعدالة.
لكن قبل ان استطرد في اثبات الفضائل الخمس الباقية،استأذن في الاشارة الى سؤال ظل يتردد داخلي على امتداد “شهر العدوان” على غزة،وهو يتعلق “بلغز” المقاومة والصمود الذي ما زال عصيا على الفهم: اذا كيف تمكن هؤلاء الناس المحاصرون منذ 8 سنوات،والمحرومون من الماء والكهرباء والعلاج،من الصمود وراء مقاومتهم،حتى اننا لم نسمع “شكوى” او تذمر،ولم يقل احد منهم رغم سقوط الالاف من الشهداء والمصابين : يجب ان تتوقف المقاومة،أو لا بد ان نرفع الرايات البيضاء لكي نضمن السلامة والحياة؟! على العكس تماما فقد عض الجميع على جراحاتهم وآلامهم وظلوا واقفين خلف مقاومتهم بكل اعتزاز وشرف.
لا شك ان وراء هذا “السرّ” عوامل مختلفة منها ما يتعلق “بالمجتمع” الذي تمكنت المقاومة من بنائه في غزة على اسس تنسجم مع عدالة قضيتهم،ومنها ما يتعلق بالايمان الذي تنتجه حالة “التدين” متى كانت صحيحة،ومنها ما يتعلق بالبطولات التي سجلتها المقومة...الخ، لكن ثمة سببا آخر اعتقد انه اهم وهو ان الناس في غزة باتوا على قناعة تامة بأنهم لن يخسروا شيئاً...فهم يموتون منذ سنوات ببطء وهذه فرصتهم الوحيدة لترسيم الحياة الجديدة والكريمة، من خلال رفع الظلم والحصار عنهم...ومادام انه لا فرق بين الموت بالتقسيط وبين الموت السريع فإن للعدوان –بهذا المعنى- فضيلته لانه منحهم الفرصة لبدء “الحياة” من جديد،حتى وان كان الثمن باهضاً وحتى وان كان بناء هذه الحياة سيحتاج الى سنوات طويلة...وهذا درس يجب ان تفهمه كل الحكومات التي ما تزال تصر على قمع شعوبها وايصالهم الى الجدار.
استطرادا لما ذكرته في مقالة الامس،بقي خمسة دروس تحتاج الى تفصيل، لكن استأذن في الاشارة اليها على عجل، الأول ان ما جرى في غزة اضاف للاسلام السياسي رصيدا جديدا بعد ان كان المقصود من العدوان هو ( استئصاله) ، صحيح ان الذين تعاطفوا مع المقاومة وانحازوا لاهل غزة تحركوا بوازع ضميري بعيدا عن الحسابات السياسية لكن الصحيح ايضا انهم كانوا يدركون بان العداء للاسلام السياسي (الاخوان تحديدا) هو الذي دفع بعض الحكومات العربية الى الصمت والتواطؤ مع العدوان على حماس ، وبالتالي فان ردة الفعل جاءت عكسية وفي حساب الاسلام السياسي الذي يتعرض لهجمة كبيرة باعتباره الطرف الاقوى في معادلة الصراع على الحرية والكرامة التي افرزها الربيع العربي أما الدرس الثاني فهو ان الهزيمة أو الفشل لا تعني - بالضرورة- اليأس و الاستسلام، كما ان النجاح لا يجوز ان يقود الى الغرور، واذا كان شق الاصرار على المراجعة و المحاسبة بعد انتهاء ( العملية) العسكرية - كما فعلت اسرائيل - مهم و ضروري بالنسبة لنا فإن عدم الوقوع في ( فخ) الغرور و الاحساس بالانتصار الذي نراه اليوم في وجوه البعض الذين ( نجحوا) في اجهاض ثورات شعوبهم مسألة مهمة ايضا. والمهم ان يتعلم دعاة الاصلاح هنا درس التواضع ان حققوا بعض مطالبهم وان تتعلم الحكومات درس المراجعة والمحاسبة اذا ما تورطت في الخطأ او فشلت في المهمة.
ثمة درس ثالث وهو سقوط نظرية ( القوة) و القمع في صناعة ( الامن) في مقابل نجاح نظرية ( التحصين الثاني) وبناء الانسان في صناعة ( الردع) و المقاومة و التغيير. ودرس سقوط نظرية القوة -بانواعها - لا يتعلق فقط باسرائيل وانما ببلداننا العربية التي ما تزال تراهن على القمع لانتاج الامن وايضا بشعوبنا التي انجرت الى العنف من اجل التغيير فيما كان يمكن ان تتحصن بالسلمية لمواجهة الظلم والاستبداد ، أما الدرس الرابع فهو انكشاف علل الذات العربية وصور تقصيرها في علاقاتها مع نفسها ومع العالم ومع المتغيرات التي طرأت على واقع البشر ،خذ مثلا : تعاملها مع الاعلام ومع مفهوم المقاطعة ومع الرهان على الزمن، وهذه كلها تحتاج الى مراجعات،ربما يفيدنا ما جرى في غزة للقيام بها، ويبقى الدرس الخامس وهو ان النجاح في ( التغيير) يستوجب الثبات على هدف واحد، وعدم التشعب في استعداء الاخرين، حتى لو ثبت كيدهم، وهذا ما فعلته المقاومة حين صوبت جهودها نحو العدو الاول واهملت المتحالفين معه....وهذا ما يمكن ان تفعله شعوبنا التي تحاول ان تستأنف مشوار ( التغيير) من أجل استعادة عافيتها.
(الدستور 2014-08-05)