«كل رجال الملك» لروبرت بن وارن: ملكوت الديماغوجي

تم نشره الخميس 14 آب / أغسطس 2014 12:56 صباحاً
«كل رجال الملك» لروبرت بن وارن: ملكوت الديماغوجي
ابراهيم العريس

سؤال: ما هو العمل الأدبي الذي صوّر شخصية السياسي الديماغوجي بأفضل مما فعل أي عمل أدبي آخر في تاريخ الفنون والآداب؟ الجواب السريع عن هذا السؤال هو، عادة، مسرحية «يوليوس قيصر» كما كتبها ويليام شكسبير، لا سيما حين تصوّر المشهد التالي مباشرة لمقتل قيصر، والذي يتبارى فيه أصدقاء هذا الأخير الجدد والقدامى، وأعداؤه، على مخاطبة الشعب وكل يحاول أن يقنع هذا الشعب بصواب موقفه سواء أكان هذا الموقف مؤيداً لاغتيال القيصر أم شاجباً إياه، لاجئاً في محاججاته الى أقصى درجات الفصاحة اللغوية، غير مبالٍ بما اذا كان معظم ما يقوله كذباً ولا يتفق مع واقع الأمور بأي حال من الأحوال. فالديماغوجية هي هذا: مخاطبة الناس كما يريدون ان يخاطَبوا، ووعدهم بما نعرف انه لن يتحقق أبداً، وقلب الحقائق رأساً على عقب. إذاً: الجواب السريع هو «يوليوس قيصر». غير ان هذا الجواب السريع ليس دقيقاً وإن كان فيه شيء من الصحة، إذ ان الباحث بدقة سيجد، لا سيما طوال القرن العشرين أعمالاً أدبية وفنية لا تعد ولا تحصى، تدور حول شخصية الديماغوجي. ومع هذا يظل العمل الأقوى في هذا المجال رواية «كل رجال الملك» للكاتب الأميركي روبرت بن وارن، هذه الرواية التي تطبع وتطبع وتترجم وتباع بمئات ألوف النسخ منذ صدرت للمرة الأولى، والتي حولت، حتى الآن، الى ما لا يقل عن فيلمين هوليووديين كبيرين نالا من الاهتمام والشهرة حجماً يتناسب مع أهمية الرواية. غير ان ما لا بد من قوله، هنا، ومنذ البداية هو ان هذه الرواية ليست في حقيقة أمرها رواية، بل هي عمل مستقى من الواقع ويكاد يكون توثيقياً. ذلك ان روبرت بن وارن، بنى هذه الرواية انطلاقاً من شخصية حقيقية، اكتفى بتبديل اسمها تاركاً للناس أن يخمّنوا من هو المقصود. والحقيقة ان الناس لم يبذلوا جهداً كبيراً للوصول الى الاسم الحقيقي، ذلك انه كان في ذلك الحين على كل شفة ولسان. لا سيما بعد ان قتلته رصاصات قيل يومها ان المدهش لم يكن انها أُطلقت وقضت عليه اخيراً، بل المدهش ان إطلاقها قد تأخر كل ذلك الوقت.
> الشخص المعني هنا هو هوي لونغ، الذي كان حاكماً لولاية لويزيانا الأميركية وممثلاً لها في مجلس الشيوخ أواسط سنوات الثلاثين من القرن العشرين. ولقد كان هذا السياسي فصيح اللسان خطيباً مفوّهاً قادراً بخطاباته على التأثير في الجموع. والحقيقة ان تلك الفصاحة كانت جزءاً اساسياً من شخصيته ورأسماله. وكانت هي ما أوصله الى المركز السياسي المهم الذي تبوأه، من دون ان يكون له أي سند حقيقي في عالم السياسة. ومن هنا اعتبر لونغ، في التاريخ الأميركي، ظاهرة استثنائية.
> المهم هنا هو ان الكاتب روبرت بن وارن، استخدم هذه الشخصية الواقعية - كعادته في كل رواياته - ليبني حولها تفاصيل هذه الرواية التي يعتبرها الأميركيون دائماً بين افضل 100 رواية كتبت في القرن العشرين. وفي الحقيقة، فإن ما يجرى في الرواية لا يختلف ولو قليلاً، عن مجريات حياة لونغ إذا استثنينا تبديل الاسم، بل حتى أسماء الأشخاص الأساسيين الذين كانوا يحيطون به، وعلى رأسهم شخصان: آدم ستانتون، ابن الحاكم السابق والذي بعد ان كان متحفظاً على ممارسات لونغ، عاد وانضم إليه، وجاك باردين، المثالي المثقف الذي بدوره ينضم الى الحاكم هنا بعدما كان متردداً، وكله امل بأن يمكّنه منصبه بصفته اليد اليمنى للحاكم، من ان يحقق سياسات كان يتطلع أصلاً الى تحقيقها. وباردين هذا هو الذي تُروى لنا الأحداث على لسانه. وطبعاً كان آدم ستانتون وجاك باردين، الاسمين اللذين اختارهما الكاتب للشخصيتين الواقعيتين اللتين كانتا محيطتين بالحاكم، اما هذا الأخير فقد صار اسمه في الرواية ويليام ستارك (ويعرف ايضاً بـ «الزعيم»)، بعدما كان يدعى في المخطوطة الأولى التي كتبها بن وارن، ويلي تالوس.
> إن الصورة التي يصوّر بها الكاتب، وعلى لسان جاك باردين، ويليام ستارك، هي نفسها الصورة المعروفة عن هوي لونغ: الديماغوجي الذي تعبده الجماهير، والديكتاتور الذي لا ضمير له... فهو إذا كان في خطاباته المفوهة يمضي وقته كله متحدثاً عن التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد واستعادة حقوق الناس، نعرف في الحقيقة انه لم يتمكن من الوصول الى منصبه، بالتالي البقاء فيه حتى مقتله، إلا من طريق الكذب والفساد والابتزاز. غير اننا إذ نقول هذا، يجب ان نشير في الوقت نفسه الى انه اذا كان روبرت بن وارن جعل من روايته، سرداً لصعود بطله وانتهازيته ونهايته، فإنه استخدم هذا كله ذريعة لكتابة رواية تفوق في أهميتها ومعانيها، أهمية ومعاني الحياة الحقيقية لذلك «البطل». ولعل ما يفسر هذا هو ان رواية بن وارن انما هي، في أساسها، تطوير لمسرحية كان هذا الكاتب نفسه كتبها - ومُثلت - عام 1940 بعنوان «جسد فخور» رسم فيها، بقوة وتعمق، صورة مدهشة لشخص دمج نفسه في حياة العالم لكنه أراد الوصول الى حقيقة ضنّ بها العالم عليه. وتلك هي، في الواقع، السمات التي جعلها الكاتب، في العمق، لويليام ستارك. فهو هنا يتمسك بكل قوى الحياة، يتلاعب بالمبادئ، بالقيم، بالناس، بالأخلاق... ولكن دائماً من منطلق انه هو نفسه كاشف لأخلاق الآخرين وزيفهم، وأن غايته الأساسية من ذلك كله انما هي، وسم هؤلاء الآخرين بالمثل العليا التي يرتئيها لهم، من دون ان يتوقف لحظة ليفكر بما اذا كانت تناسبهم أو لا... ومن هنا تبدو ساحرة وقوية كل تلك المشاهد التي تجمع بين ويليام ستارك وجاك باردين في حوارات لا تنتهي. حوارات صحيح ان باردين هو الذي ينقلها الينا... لكننا نحن القراء، لا يفوتنا ان نتوقف عندها لنتأمل بين الحين والآخر ما يقوله ستارك، لا سيما حين يتحدث عن الشرط الإنساني وأخلاق البشر، مفكرين: ترى هل يمكننا ان نقول ان هذا الرجل دائماً على خطأ؟
> الواقع ان قوة هذه الرواية الأساسية تكمن هنا، في هذا التصوير الجدلي، الذي يخصّ به بن وارن شخصيته الأساسية، وكأنه يضعه على المشرحة ليحلله، ثم يشعرنا اننا نحن بدورنا، كقراء، موضوعون على المشرحة، في امتحان طويل همّه الأساس ان يكشف لنا كم ان في وسعنا نحن ايضاً، ان ننبهر بسحر ويليام ستارك، وأن نقع في لحظة أو أخرى فريسة ديماغوجيته. وبالنسبة الى الكاتب، من الواضح ان هذا البعد في فاعلية كتابه هو البعد الذي همّه أكثر من أي بعد آخر. وهذا الجانب من الرواية إن قرأناه في شكل جيد، سيذكّرنا - على الأرجح - ببعض فصول كتاب مهم للألماني - البلغاري الياس كانيتي، هو «السلطة والجمهور»... ولكن ايضاً بأسئلة شائكة وحادة يجد الإنسان نفسه مجبراً، بين الحين والآخر، على طرحها على نفسه بصدد أشخاص مثل هتلر وستالين وموسوليني وتلامذتهم المعاصرين من الذين يتقنون فن التوجه الى الجماهير العريضة وإقناعها، مهما كان مستوى الكذب في كلامهم كبيراً.
> عاش روبرت بن وارن بين 1905 و1989، وعرف كشاعر وروائي وناقد أدبي، من الذين أغنوا الحياة الفكرية الأميركية، لا سيما بصفته واحداً من الذين أسسوا تيار النقد الجديد في الولايات المتحدة. أما كمبدع، فإنه كان الكاتب الأميركي الوحيد الذي فاز بجائزة بوليتزر الأدبية المرموقة، 3 مرات في حياته، مرتين بصفته شاعراً ومرة بصفته روائياً. وهذه المرة الأخيرة، كانت، تحديداً، عن رواية «كل رجال الملك» التي نشرت للمرة الأولى عام 1946. أما بوليتزر الشعرية ففاز بها عام 1957 وعام 1979. أما أشهر روايات بن وارن، إضافة الى «كل رجال الملك»، فهي «عند بوابة الجنة» (1943) و «أخوة التنين» (1953) و «القبو» (1959) و «هدية عيد الميلاد» (1937).

(الحياة 2014-08-14)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات