«كارمن» لتشارلي شابلن: لماذا أنكر الفنان هذا الفيلم؟

تم نشره السبت 16 آب / أغسطس 2014 12:48 صباحاً
«كارمن» لتشارلي شابلن: لماذا أنكر الفنان هذا الفيلم؟
ابراهيم العريس

كان تشارلي شابلن يصر دائماً على «إنكار» انه مثّل وأخرج طوال حياته المهنية فيلماً مقتبساً من اوبرا «كارمن» المعروفة (من كتابة بروسبير مريميه وموسيقى جورج بيزيه). لكنه في «إنكاره» كان يعرف ان أحداً لا يصدقه لأنه حقق هذا الفيلم حقاً في العام 1915. كل ما في الأمر أن الفيلم الذي حققه، أتى شيئاً آخر غير الفيلم الذي عرض بعد انجازه «كارمن». والحقيقة اننا نحن هنا امام حكاية طالما تكررت مع كبار فناني السينما على مدى تاريخ الفن السابع، حين يحققون فيلما، ثم يأتي المنتجون ليبدّلوا فيه، أو يضيفوا إليه، ناسفين إياه من اساسه. ولدينا في تاريخ السينما اللبنانية، مثلاً، حكاية من هذا النوع تتعلق بثاني فيلم حققه رائد هذه السينما علي العريس، وكان فيلماً «بدوياً» عنوانه «كوكب أميرة الصحراء». إذ بعدما انجز علي العريس تصوير فيلمه هذا في العام 1946 ووصل الى مرحلة التوليف النهائي، أصابه مرض أقعده عن العمل، فما كان من منتجي الفيلم إلا ان أتوا بمولّف (مونتير) مصري محترف، وطلبوا منه ان ينجز تركيب الفيلم، من دون ان يستأذنوا صاحب الفيلم في ذلك. وهكذا، حين أبل من مرضه فوجئ علي العريس بأن «كوكب أميرة الصحراء» سيعرض خلال ايام. فغضب وطبع منشورات تقول: «مخرج هذا الفيلم يدعوكم الى مقاطعته». ووزع المنشور في طول بيروت وعرضها. والذي حدث ان الناس استغربوا الحكاية فدفعهم الفضول الى التراكض لمشاهدة هذا الفيلم الذي «يحاربه» مخرجه، ما زاد في حزن هذا الأخير وغضبه. وكما قلنا، فإن ثمة في تاريخ السينما ألف حكاية وحكاية من هذا النوع. اما بالنسبة الى شابلن، فإنه لم يصدر منشوراً ولم يخض صراعاً، وإنما اكتفى بإنكار فيلمه.
> ومع هذا علينا ان ننتبه هنا الى ان لهذا الفيلم (اي «كارمن») قيمة تاريخية كبيرة، إذ انه، من ناحية يسجل نهاية تعاون شابلن مع شركة «ايسناي» التي انتجت معظم أفلامه الأولى، كما يسجل قيامه بأول دور درامي له (يبتعد قليلاً عن صورة «الصعلوك» المعتادة) وهو دور «دون جوزيه» الشخصية الذكورية المحورية في العمل، حتى وإن كان الصعلوك نفسه موجوداً، كممثل يقوم هنا بدور عاشق «كارمن». وإضافة الى هذا يسجل شابلن في هذا الفيلم بدء تعاطيه الساخر والناقد مع فن السينما نفسه، إذ إن تاريخ هذا الفنان المهني يقول لنا بإجماع المؤرخين إن شابلن إنما حقق «كارمن» (او بالأحرى هذا العمل الغريب، كما سنرى، والذي يمكننا ان نطلق عليه اسماً جديراً به هو «شارلي يمثل كارمن») لكي يسخر من فيلمين ميلودراميين عن موضوعة أوبرا «كارمن» نفسها كانا حققا في ذلك العام نفسه: فيلم من إخراج سيسيل ب. دي ميلي (من بطولة جيرالدين فارار) وآخر من اخراج فرانك لويد (من بطولة تيدا بارا). والحال ان هاتين - فارار وبارا - كانتا اكبر نجمتين في هوليوود في ذلك الحين، وكما يبدو، فإن شابلن أراد ان يجابه نجوميتهما بما افترضه اقوى منهما، فأتى بفاتنته الحسناء وملهمته في ذلك الحين، إدنا بورفيانس، ليسند إليها دور «كارمن»... في الفيلم الذي حققه بنفسه. وفي هذا الإطار على الأقل، حقق شابلن النجاح الذي كان يتوخاه لتبدأ بورفيانس رحلتها مع النجومية وغالباً في افلام من إخراجه بعضها كتب خصيصاً لها.
> ونعود هنا الى الفيلم نفسه لنشير الى ان ما هو موجود منه الآن هو فيلم في اربع بكرات، مع ان المعروف تاريخياً ان الأصل الذي حققه شابلن كان من بكرتين فقط. فالذي حدث هو ان شابلن بعد تحقيقه فيلمه، اصطدم بالشركة المنتجة... وهكذا إذ قُدّم الفيلم في عرض محصور في شكله الأساس في كانون الثاني (يناير) 1915، عاد وقُدّم في شكله الجديد بعد اربعة اشهر من ذلك التاريخ. والشكل الجديد هو الذي أُضيفت إليه بكرتان حققهما الممثل بن طربين الذي كان، في الأصل، يشكل جزءاً من فريق شابلن، لكن ما أقدم عليه، أفسد العلاقة بينهما. والطريف ان طربين، الذي جعل الاضافة الأساسية عبارة عن مشاهد يعيش هو فيها بين جماعة من البوهيميين وتبدو مقحمة على الفيلم إقحاماً تاماً، لا يلتقي في أحداث الفيلم بشابلن على الاطلاق، ما يجعل كل مشاهده غير ذات علاقة بأحداث الفيلم. ومع هذا كان بين الجمهور من استساغ تلك الصيغة وسرّه أن ينال وقتاً اضافياً يلهو فيه ويتمتع بالمشاهد، ما زاد من غيظ شابلن غيظاً.
> المهم ان فيلم «كارمن» الأصلي، ينطلق كما يفترض به ان يفعل، من أوبرا «كارمن» نفسها بأحداثها المعروفة، لكن شابلن، قلب المأساة مهزلة، اذ جعل منه فيلماً يسخر من السينما التي سبقته في تقديم «كارمن». وهكذا، إذا كان توالي الأحداث والمشاهد يسير، أصلاً، تبعاً للمخطط المعهود في الأوبرا، فإن شابلن استخدم اجواء اسبانيا التقليدية، والشخصيات النمطية، والحبكة المصطنعة، اضافة الى المواقف المفبركة، ليحول ذلك كله ذريعة لتحطيم عمل فني كبير... ولم يكن هذا، من قبله، صدفة، بل كان مقصوداً كما أشرنا.
> ومن هنا فإن الجمهور كان يعرف سلفاً انه لن يدخل الى الصالات المعتمة لمشاهدة الأوبرا. كان يعرف بتجاربه السابقة مع سينما هذا الفنان الساخر الكبير والذي كان بعد كل شيء فوضوياً في تفكيره، ان شابلن يخبئ له مفاجآت... وبالفعل ما إن بدأ عرض بكرتي الفيلم الأصلي، حتى تبدت المفاجآت في سلسلة المشاهد الطريفة والقوية التي تعمّد شابلن ان يجعل كلاً منها وكأنه فقرة ضاحكة - مسلية تنتمي بالأحرى الى الفن المعروف بفن «الميوزيكهول»، بدءاً من المعركة العنيفة التي تدور بين الفتيات صانعات السجائر، وصولاً الى اللعبة الدائرية بين شابلن، كشارلو الصعلوك، وشابلن كدون جوزيه. ان كل شيء يبدو هنا فاقعاً، بمن في ذلك المهربون الذين بدلاً من ان يثيروا الرعب في عمل كان يفترض بهم ان يمثلوا الشر المطلق، بدوا هنا ساخرين مضحكين مثل مجموعة من الراقصين الخليعين في استعراض هزلي. ثم بعد ذلك تصل السخرية الى ذروتها في ذلك المشهد الذي يقوم فيه الجنود بشن الهجوم «النهائي» على المهربين في معقلهم. هنا في لعبة سينمائية بصرية رائعة، أثبتت عبقرية شابلن كمخرج، تدور الأمور من حول باب مزرعة يدفعه الجنود الى الداخل، بيد ان المهربين يحاولون بدورهم في المقابل دفعه في اتجاه آخر، ما يجعل على الشاشة نوعاً من كوريوغرافيا - مشاهد راقصة - بديعة. ولا سيما بعد ذلك حين يسقط الباب، فيظل هؤلاء وأولئك يتدافعون ضد بعضهم بعضاً وكأن الباب لا يزال موجوداً، واقعين يميناً ويساراً خابطين رؤوسهم ضد الباب الوهمي.
> والحقيقة ان ابتكارات شابلن البصرية في هذا العمل، تبدو كثيرة وتفوق ما كانت تسمح به الامكانات التقنية الفعلية، ما يشي بأن تشارلي شابلن، انما كان يريد من عمله هذا ان يكون فاتحة لتجديدات تقنية ولا سيما على صعيد تصوير ما سيصبح لديه، بعد ذلك، رقصات باليه جماعية تكون أول الأمر مجرد صراعات جسدية. ولربما يعود غيظ شابلن إزاء «كارمن» هذا الى ان القطيعة التي حدثت بسببه بينه وبين شركته الأثيرة في ذلك الحين، اوقفت ذلك التوجّه لديه، وجعلته يعود، خلال سنوات تالية، الى اساليبه المعتادة، ما أخر تجديداته التي سنعثر عليها في اعمال كبيرة تالية له، مثل «الهجمة على الذهب» و «الأزمنة الحديثة» و «الصبي» و «السيرك»... ومن النادر ان نجد لها جذوراً في معظم اعمال شابلن التي تعود الى العقد الثاني من القرن العشرين، العقد الذي شهد بداية تكونه وشهرته، ومهد على أية حال لنجاحاته التالية. العقد الذي توسّطه فيلم «كارمن» الذي كان - على رغم كل شيء - تمهيداً حقيقياً لظهور شابلن لاحقاً كمخرج كبير يجعل من الكاميرا أداة طيعة، لا مجرد آلة تسجل ما يحدث أمامها.

(الحياة 2014-08-16)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات