صلاح أبو هنود: ذاكرة الدراما التاريخية وصناعتها

المدينة نيوز- قبل النكسة كانت انطلاقته على خشبة مسرح الجامعة الأردنية، التي لم تكن آنذاك دخلت عامها الثالث.
لا يجيد الحديث كثيرا عن ذاته، فعمله دوما خلف الكاميرا، مُقلٌّ في الظهور، ساهم بشكل واسع في بناء ثقافة الدراما التاريخية والمسرح الاردني. كانت النكسة ولادة تحدٍّ ووأد لحلم كبير بالنسبة إليه ولجيله، فابن عصيرة الشمالية– نواحي نابلس، المولود العام 1944، كان قد هيأ نفسه للاحتفال، فأعد "اللزوميات البهية، التي سرعان ما انهارت أمام هول الكارثة وضياع الأمل. النكسة عملت انفصاما في حياتنا كان عندنا أمل أن النصر وشيك، وعندما أعلنت النتيجة كان الانهيار!.. لم أبك قط بكاءً مُرا مثل العام 1967، حتى الأساتذة نجّحونا في مادتين احتفالا باعتبار أننا منتصرون، وكان هناك وعد بأن الملك حسين سيأتي لتخريجنا، فذهب الحلمان في ستة أيام، حلم تخريجنا من قبل الملك، وحلم الانتصار".
في العام الدراسي الثاني العام 1963/1964 للجامعة الأردنية، التحق صلاح أبو هنود بقسم علم النفس، وفي الجامعة تفتحت موهبته على المسرح، آنذاك أخرج أبرز أعماله المسرحية، ومنها "أريد أن أقتل" لتوفيق الحكيم، و"مشكلة في القصر"، و"مركب بلا صياد" لأليخاندرو كاسونا، و"كم أنت جميل أيها الرجل" لجان جيرود، و"أفول القمر" لجون شتاينبك، و"هواية الحيوانات الزجاجية" لتينسي وليامز، و"الوعد" لألكسندر زورباتوف، و"المفتاح" لجمال أبو حمدان، و"الفخ" لروبرت توماس.
تخرج في العام 1967 من الجامعة الأردنية، ويوحي حديثه بأن الجامعة كانت بوتقة إبداع كبير، فيها تنصهر الثقافات ويعاد بناء الشباب، يحدثك عن الزمان الأول عن الأساتذة الكبار وعن الزملاء "آنذاك، الحركة الطلابية كانت فاعلة، وتلقت النكسة بصدمة كبيرة، ومن زملائنا عيد الدحيات وعوض خليفات وخالد الكركي ومحيي الدين توق، ومن الأساتذة في علم النفس فاخر عاقل من سورية، ونعيم الرفاعي ومحمود الزيادي من مصر، وغيرهم".
تسأله عن ناصر الدين الأسد، فيصمت، ثم يقول "درست عليه في السنة الأولى اللغة العربية، ولا أنسى أول جمله له في الدرس، لأنني كنت متأخرا، وبعد أن جلست قال: بصوت جهوري ولسان فصيح: الجاهلية جاهليتان جاهلية أولى موغلة في القدم، وجاهلية تمتد إلى ما قبل ظهور الإسلام.. كان الأسد مهابا، ومن الصعب تكراره، بالرغم أن كثيراً من الأساتذة حاولوا تقليده".
يعتقد أن علم النفس أثّر عليه، ففهْمُ النفس البشرية مهمٌّ في بناء الشخصيات الدرامية، وهو عنصر مهم يساهم في نجاح عمل المخرج، أول أعماله الفنية وأول أجر تقاضاه كان من الجامعة الأردنية جراء تقديمه مشاهد تمثيلية نقدية للدراسة وأحوال الطلبة الفقراء "تم إعفاؤنا من الأقساط من قبل الرئيس د. ناصر الدين الأسد، الذي فكر بالبحث عن رجل محترف يرعى المواهب فأحضر للجامعة هاني صنوبر".
التجربة لم تطل في الأردنية "فشلت بسبب نظام الغياب عن الدروس"، بعدها أخذه هاني صنوبر، وهو ما يزال طالبا للإذاعة الأردنية في آذار 1965 "بقيت في الإذاعة، حتى افتتح التلفزيون العام 1971، ثم تركت المسرح العام 1973، وتفرغت للعمل في التلفزيون، وهاني صنوبر هو الذي قدمني..".
الإذاعة مهّدت له الطريق عبر تقديمه عددا من المسلسلات والأعمال المسموعة، منها: يرتفع الستار، وطبيب الشمال، وسلمان الفارسي، وذهب مع الريح، والإلياذة، واللؤلؤة والصياد.
كان أول دور قدمه "دور باريس في مسلسل الإلياذة، ثم بعد فترة من العمل في مسلسلات الإذاعة أسست أسرة المسرح الأردني".
انشغاله بالمسرح سكنه حلما كبيرا، وهو الذي يرى أن المسرح كان يقدم صورة الحياة الآنية ويصر على رسالة كبيرة "كنا نهدف إلى نشر ثقافة تعلي من قيمة الأمل والحرية والإنسان".
بين هذه المهمة وبين ذاكرة الطفولة كانت القرية ما تزال حاضرة معشعشة في عقله، فعصيرة الشمالية كانت طاغية الحضور في مدارسها الابتدائية وأساتذتها، ومنهم: عبدالكريم حمادنة، وعبدالعزيز السيد، وكامل سعادة. ومن الأصدقاء: عبدالرؤوف حسين حمادنة، الذي تقاعد برتبة لواء من الأمن، وفيروز مسعود، الذي كان المفتش العام لأمانة عمان، ود. مفيد صابر. سكن عند بداية الدراسة في الجامعة في جبل اللويبدة "بجانب بيت سمير الرفاعي القديم"، أما العائلة فجاءت من بلدة عصيرة، قبل التخرج من الجامعة بأسبوع، ولما انجلت النكسة لم تستطع العودة لفلسطين "كان لي اخ ضابط في الجيش الأردني، ووالدي ظل مع مجموعة من الجنود الأردنيين، الذين أصيبوا في معركة وادي التفاح في نابلس، فأحضرهم إلى عصيرة وجاء بدكتور لإسعافهم، وكان كلما شفي واحد يحضره للضفة الشرقية، إلى أن وجد احد الضباط جروحه كبيرة فاضطر لأن يحمله للضفة الشرقية، ولم يكن يفصح عن اسمه لهم.. وهذا ما ورد في كتاب معن أبو نوار عن حرب 1967، وفي روايات الجنود، ولما حاول العودة لم يستطع لأنه صار مطلوبا فظل هنا..".
انتقل صلاح إلى العمل في تلفزيون دبي عند نشأته العام 1974، وهو من الذين ساهموا في تأسيسه. وفيه قام بإخراج مجموعة من المسلسلات الدرامية منها التاريخي والبدوي والريفي والحديث، إلا أنه عاد إلى عمان العام 1977، مع استمراره مستشارا لتلفزيون دبي لشؤون النصوص الدرامية.
تطور في دار الإذاعة والتلفزيون الأردني، إذ عمل مشرفا عاما للدراما، ثم مديرا للبرامج. كما كان مستشارا للنصوص في مؤسسة الخليج للأعمال الفنية التابعة لتلفزيون دبي.
الراحل الملك حسين كان يحب التلفزيون ودار الإذاعة "كان يزورنا باستمرار، كثيرا ما كان يأتي جلالته ويسجل خطابا وكنت أنا مدير الاستوديو، وعندما يأتي رحمه الله بالبزة العسكرية ندرك أنه غاضب".
الطُرفُ كثيرة، ومنها حادثة اطلق عليها "ذبابة التلفزيون"، ففي ذلك الزمان لم يكن هناك مونتاج للخطابات، ويجب أن يكون التسجيل سليما من دون أي خطأ، وحدث ما لم يمكن توقعه ذات مرة "كان الملك يلقي خطابه، وفي الثماني دقائق الأولى نزلت ذبابة على صدره، فتوقف عن القراءة، حاولنا طردها فارتفعت لسقف الاستوديو، وكان صعبا الوصول لها، فأعدنا التسجيل، فنزلت للمرة الثانية، وعلى المكان نفسه، فتوقف مرة اخرى عن التسجيل، وساد التوتر، قال الملك ما في حل يا أبو عماد؟ فقال الحل الوحيد رشها، فقال أنا مانعكم، ثم اعاد التسجيل فنزلت الذبابة للمرة الرابعة، فُطلب مني ان أرش الذبابة، فضغطت فهربت من صوت الرذاذ.. وطلب الملك ان أرش بشكل أقوى، فضغطت، ولكني كنت خائفا ان تخرج كمية كبيرة من المبيد، فلم تمت الذبابة، فأعدنا التسجيل، وتكررت الحالة، فرفع الملك يده، وقال: يا أخ صلاح خايف أموت ولا تموت الذبابة.. وسأسجل مهما كان ثم استمر بالتسجيل ولم تنزل الذبابة ..".
في تلفزيون دبي كان لقاؤه مع الكاتب وليد سيف "كانت أول تجربة لوليد، وأنا أول من أطلقه وأول من قدمه للشاشة العربية في مسلسل الخنساء"، الصدفة لعبت دورا "دون تخطيط رغبت بأمين شنار أن يكتب العمل، ورفض، فخرجت مكتئبا من بيته، فقابلت المخرج احمد قوادري، فرأى آثار الاكتئاب على وجهي، فسألني فأخبرته، ثم تذكرت واحداً كان يكتب شعرا جميلا وكان معنا بالجامعة، وحاول أن يكتب بالمسرح مرة، فرُفض نصه لأسباب موضوعية، وسألت قوادري عن اسمه فقال: وليد سيف، وأشار إلى بيته في جبل الحسين، وفي اليوم نفسه ذهبت وطرقت الباب وطرحت الموضوع على وليد، تردد، لأنه لم يكن كتب بعد للتلفزيون، فقلت له سأساعدك، وراجعنا أول حلقة كتبها، ثم بدأ المشوار".
توالت اعمال وليد سيف التاريخية مع صلاح أبو هنود، لعب الاثنان دورا كبيرا في الثقافة البصرية العربية، ومن أعمالهما عروة بن الورد، وشجرة الدر، وطرفة بن العبد، وجبل الصوان، والصعود للقمة، الدرب الطويل، وإلى جانب وليد سيف أخرج ابو هنود مجموعة كبيرة من الأعمال لكبار الكتاب العرب من أمثال روكس العزيزي وممدوح عدوان ومعين بسيسو ويوسف ابو ريشة وخيري الذهبي ومحمود شقير وغيرهم.
الأعمال التي اخرجها ابو هنود ما زالت حاضرة، ومنها أبو فراس الحمداني، وعبدالرحمن الكواكبي، وحتى آخر جندي، وأبو حيّان التوحيدي، ومحاكمة ابن المقفع، ونمر العدوان، ورجم الغريب، وحدث في المعمورة، ومحاكم بلا سجون، وأحلام الطيور الصغيرة، وآسف النمرة غلط، وسوف يهبط الظلام لأجاثا كريستي.
وأشرف على اخراج عدد كبير من البرامج التلفزيونية، منها "حديث المساء"، تقديم عصام العجلوني، و"هدي الإسلام" تقديم إبراهيم زيد الكيلاني، إلا أن حب وليد سيف نال اكبر عدد من البرامج التي اخرجها ابو هنود، ومن برامجه عيون الشعر وأدباء في المحنة، وفن العمارة العربية الإسلامية، ولا يقل إسهامه في الدراما عن اسهامه في اخراج برامج المسابقات، ونشر ثقافتها مع كل من رافع شاهين وشريف العلمي وزاهية عناب.
التغريبة الفلسطينة لها قصة، فأبو هنود يؤكد أن "وليد سيف بدأ بكتابتها العام 1984، بالتزامن مع إخراجه لمسلسل الصعود للقمة، واستغرقت أكثر من سنتين، ثم تعثرت عملية إنتاجها، ولم استطع أن أخرج العمل إلا في العام 1998، وأصر المنتج أن أصور داخل الأستوديو، وأن أخفف التصوير الخارجي، وأثناء عملية النسخ من أجل بثه تعرض العمل لعملية اغتيال في جانب الصوت، علما أن التسجيل الأصلي كان صحيحا مائة بالمئة، فأعدت المونتاج والميكساج، وتم بثه على محطة أرضية واحدة هي التلفزيون الأردني باسم الدرب الطويل، ثم قام الدكتور وليد سيف بييع النص لشركة سورية قامت بإنتاجه تحت مسمى التغريبة الفلسطينية".
أردنيا ابو هنود عاصر الإنتاج الدرامي في مرحلة التأسيس وأسهم في تقديمه في السبعينيات، وعلى أثر ذلك التقدم أنشئت الشركة الاردنية للإنتاج السينمائي والإذاعي والتلفزيوني، بالتزامن مع تأسيس كلية الفنون في جامعة اليرموك، وهو يؤكد أن هناك "رؤية متكاملة خطط لها للوصول بالصناعة الدرامية لحالة متقدمة، لكن الشركة تم اغتيالها وتصفيتها، عبر إدارات متعددة قامت كل منها بدور".
بعد ذلك، جاءت أزمة الخليج بدخول صدام للكويت، فكانت الشماعة التي علق عليها انحسار حركة الدراما الأردنية، وتوقفت بين مد وجزر "حتى ظهر المركز العربي كمنتج فاعل في حركة الدراما العربية".
يرى أبو هنود أن الدراما التاريخية تجعل التاريخ مستمرا فهو مقياس حركة الإنسان على الأرض وليس عمل من ضروب الغيبة. والأعمال التاريخية برأيه لا تسرق التاريخ ولا تلونه "فرقٌ بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الفنية، هناك روايات متعددة لحادثة معينة، ثم يأتي الكاتب وينتقي منها الحادثة التي تحمل مصداقية عالية، وتتناسب مع سيكولوجية الشخصية، ثم يقوم المخرج بصياغتها فنيا وبشكل مقنع، فتتحول الحادثة عبر الفن إلى حقيقة جديدة، وهذا حق للمخرج".
حصل ابو هنود على جائزة الدولة التقديرية "فن الإخراج 2006"، وميدالية الحسين للتفوق- من الدرجة الأولى 1995، ووسام الاستحقاق من الدرجة الأولى- ليبيا 1989.
في العام 1972 تزوج من السيدة فيرا مرار "تعرفت إليها صدفة بالتلفزيون أخذتها على المسرح ومثلنا معا مسرحية الحيوانات الزجاجية وخلال المسرحية خفقت القلوب ثم تزوجنا، وأنجبنا خلدون وجمانة".