فقه المآلات

عطفاً على مقالة الأمس التي كانت بعنوان «بين فقه الكليات وفقه الجزئيات» التي حاولت من خلالها لفت أنظار العلماء وأهل الاختصاص وذوي الاهتمام بالشأن العام إلى مسألة منهجية مهمة في صياغة العقل الفقهي الجديد وهي ضرورة التركيز على الكليات والقواعد العامة التي لا تحتمل الخلاف، لتشكل إطاراً جامعاً، ومنطلقاً للتعامل مع الجزئيات الكثيرة التي لا عدّ ولا حصر لها، ومرجعية عليا للتعامل مع الظنيات والتطبيقات المتجددة والمتغيرة بحسب الظروف المكانية والزمانية والتي تخضع لفهم كل جيل في مرحلته التاريخية بحسب ما تحصل لديهم من علم وخبرة وقدرة على تشخيص المصلحة العامة.
كنت أود أن تخضع هذه المسألة وأمثالها وتوابعها إلى نقاش وحوار مستفيض من أهل الفقه وأهل العلم والاهتمام لمزيد من الانضاج والتأطير العلمي المنهجي، وكان الاتصال الأول معي في هذا السياق من سمو الأمير الحسن، وجدت منه الثناء على الفكرة وأنها جاءت في وقت أحوج ما تكون الأمة والأجيال لمثل هذا الفكر وهذا المستوى من الفقه وأن ذلك محل اهتمامه وأشار أيضاً إلى الاهتمام بمسألة أخرى مشابهة وهي فقه المآلات.
فقه المآلات مسألة أخرى تمثل قاعدة مهمة من قواعد الفهم للعلة ومسالكها حيث أنها تمثل حجر الزاوية في فهم الأحكام الفقهية فهماً صحيحاً، من أجل امتلاك القدرة على تطبيق الحكم تطبيقاً سليماً يحقق الغاية التي شرع من أجلها الحكم ابتداءً، ولا يستطيع المكلف تطبيق الحكم وتنفيذه وهو يجهل الغاية التي تقف خلف الحكم، ويجهل مقصد الشارع الذي أراده، ولذلك لا يكفي من المكلف أن يكون حسن النية، ولا يكفي أن ينفذ الفعل المطلوب شكلاً وهو لا يعلم العلة والمقصد ولا يعلم هل استطاع أن يرضي الخالق الكريم من خلال ما فعل أم لا.
الفعل منوط بمآله، وهذا ما أكده الفقيه الأصولي الذي نبغ في مغرب العالم الإسلامي المعروف بالشاطبي، حيث قال مآلات الأفعال مقصود معتبر شرعاً، بمعنى أن الشارع الكريم ربط الأفعال بآثارها، وبما انتهت اليه على صعيد الفرد والمجتمع سواء بشكل آني أو بشكل بعيد المدى.
لقد ورد في كتب السيرة الصحيحة أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان يرفض قتل المنافقين، عندما كان أحد الصحابة يقول: دعني أضرب عنقه، فكان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يقول: لا، حتى لا يقال: محمد يقتل أصحابه، وفي قول آخر هناك إضافة أخرى تقول: لعل الله يخرج من أصلابهم من يحمل هذا الدين، وجواب الرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد نظره الكريم وتركيزه الواضح نحو ما يترتب على الفعل من آثار ومآلات.
وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: ((لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لهدمت الكعبة وبنيتها على أسس ابراهيم واسماعيل)) ولكن الرسول الكريم امتنع عن هذا الفعل لتقديره للآثار المترتبة على هذا الفعل وهو صحيح شكلاً ومقصداً، وهذا الفعل نموذج لعدة أمور كثيرة امتنع الرسول عن فعلها من خلال النظر في العواقب والمآلات المرجح في أغلب الظن وقوعها، ومن خلال الموازنة بين الايجابيات والسلبيات.
روي عن سيدنا عمر بن الخطاب أنه أمر أفراد الجيش الفاتح بعدم الزواج من «الروميات» أو شعوب البلاد المفتوحة، مع أن ذلك مباح شرعاً، ونص القرآن على اباحته صراحة، ولكن عمر بن الخطاب بصفته ولياً للأمر نظر إلى عواقب هذا الفعل وآثاره على مستقبل المجتمعات العربية، ونظر إلى التغيرات الاجتماعية الخطيرة التي قد تطرأ في المستقبل على تكوين المجتمع وشكله، وهذا ينطبق على فعل سيدنا عمر بالامتناع عن توزيع الأرض المفتوحة على أفراد الجيش المحارب، وذلك خوفاً من المآلات الخطيرة التي سوف تترتب على هذا الفعل، من تعطيل للأرض وما يشكله من خلل اقتصادي مريع من تركز الثروة بيد فئة قليلة جداً، يؤدي إلى سوء توزيع الثروة، مخالفاً في ذلك ظاهر النص الذي يأمر بتوزيع الغنائم على الجيش.
مما يجعلنا أمام مسألة في غاية الخطورة تتعلق بالوقوف على غايات الأحكام الشرعية وعللها ومقاصدها، مما يجعلنا مأمورين بالنظر في مآلات الأفعال وآثارها، وتجنب التنفيذ الحرفي الظاهري الذي يقف على ظواهر النصوص بجهالة لا يقبلها النقل والعقل، ويرفضها الفقه الأصيل ، الذي يصعب على الجهلاء فهمه.
(الدستور 2014-08-27)