«أغاني ما قبل الفجر» لسوينبرن: الحرية إما أن تكون داخل الذات أو لا تكون

تم نشره الخميس 28 آب / أغسطس 2014 12:17 صباحاً
«أغاني ما قبل الفجر» لسوينبرن: الحرية إما أن تكون داخل الذات أو لا تكون
ابراهيم العريس

«لا شك في أن نظرات سوينبرن، على وجه العموم، صائبة، وذوقه يمتاز بالحساسية والقدرة على التمييز، بحيث أننا لا نستطيع أن نصف تفكيره بأنه مخطئ أو ملتو الى الحد الذي يظل تفكيره معه تفكيراً. غير أن سوينبرن يتوقف عن التفكير في عين اللحظة التي نكون فيها على أشد الحماسة الى تفكيره. وهذا التوقف، على رغم انه لا يفسد عمله، يجعل من هذا العمل مدخلاً، اكثر منه متناً...». هذا الحكم الذي أصدره الناقد والشاعر تي. إس. اليوت على سلفه الشاعر والناقد الانكليزي آلغرنون تشارلز سوينبرن، كان اليوت يقصد منه الحديث عن نقد هذا الشاعر لا عن شعره. ذلك أن شعر سوينبرن لم يكن، مبدئياً، من النوع الذي يمكن الحديث عنه من منطلق العقل والتفكير، فهو كان، في شكل عام، شعراً ينتمي الى الشعر السابق على السوريالية، من خلال تأثره المعمق بويليام بليك وبودلير، ثم من خلال صداقته الطويلة مع روزيتي. ومع هذا يمكن هنا التوقف عند عمل شعري معيّن لسوينبرن، لإخراجه مما - قبل السوريالية، وضمه الى حيز الفكر العقلاني. وهذا العمل هو مجموعته «أغاني ما قبل الفجر»، التي وضع قصائدها انطلاقاً من اندفاعته الحماسية الى جانب المسألة الايطالية، على غرار حال بايرون في موقفه المناصر، عملياً وفكرياً للثورة اليونانية، وكذلك على غرار شيلي في بعض لحظاته الثورية. وطبعاً لا تنفي هذه «العقلانية» عن شعر سوينبرن، في «أغاني ما قبل الفجر» نزعة رومنطيقية ماثلة وحقيقية، لكنها رومنطيقية نضالية وُظفت هنا من أجل قضية. وبالتالي بات في الإمكان مدّ حكم إليوت النقدي ليشملها، من دون أن يشمل جملة اعمال اخرى لسوينبرن كتبت قبل تلك «الأغاني» وبعدها. والحقيقة ان اليوت لم يكن الوحيد الذي «حاسب» تلك المجموعة، عقلانياً، على اعتبارها تعبّر عن مواقف فكرية وسياسية تستدعي التفكير، ثم ما إن يصل هذا التفكير الى ذروة حماسته، حتى يعود الشاعر الى عواطفه وشاعريته الخاصة، تحديداً وفي استعارة من اليوت - «في اللحظة التي نكون فيها أشد حماسة الى التفكير». فما هي هذه المجموعة؟ لماذا وضعها سوينبرن؟ وما سبب خروجها عن مألوفه الشعري؟
> إن المناخ الطاغي على قصائد هذا العمل هو مناخ البحث، والسعي الى فجر الحرية في اندفاعة عاطفية «جمهورية» حادة، عاشها سوينبرن في زمن كان فيه شديد الاستلهام من نهضة الشعوب الباحثة عن استقلالها. وكان الشعب الايطالي، في نظره، في مقدم هذه الشعوب. ومن هنا نراه يستلهم نضال هذا الشعب، ولكن في تعميم لدائرة النضال يشمل غيره من الشعوب. اما سبب وجود الشعب الايطالي وقضيته في صلب ذلك النضال، ففي خلفيته لقاء عقد بين سوينبرن وماتزيني، قائد الثورة الايطالية ومنظّرها الاكبر، وكان لقاء عقد خلال شهر آذار (مارس) 1867 بترتيب من كارل بلايند، الذي كان من غلاة الانكليز المؤيدين للثورة الجمهورية الايطالية، والساعين حتى الى انتفاضة جمهورية في انكلترا. وسوينبرن كان، على أي حال، قريباً من تلك الافكار منذ دراسته الجامعية، حين انضم الى رفاق كانت النزعة الجمهورية والاشتراكية الخيالية، رائدهم. ومن هنا اهتمام ماتزيني به، اذ وجه اليه قبل اللقاء رسالة يقول فيها: «في الوقت الذي تخاض فيه معركة طاحنة بين العدل والظلم، بين الحقيقة والكذب، بين الحرية والطغيان، بين الله والشيطان، من اجل تحقيق تصور جديد للحياة (...) يتعين على الشاعر ان يكون رسول اندفاعة مناضلة تجعل من كلامه برنامج عمل للأمم المضطهدة المناضلة، وجنازاً ختامياً للقامعين المضطهدين». ولم يكن سوينبرن في حاجة الى اكثر من هذا الدفع الحماسي من نجم من بين نجوم النضال التقدمي الايطالي في ذلك الحين، حتى يخوض المعركة، بشعره وعواطفه كلها. والحال أن سوينبرن كان سبق له ان كتب على الاقل، قصيدتين تمجدان ذلك النضال: «نشيد في ثورة كانديا» و «أغنية ايطاليا». وهكذا راح مندفعاً يكتب الشعر السياسي الحماسي. فولدت اشعار مجموعة «أغاني ما قبل الفجر» المستوحاة كما اشرنا، من الأحداث الايطالية. وكان من اجملها، في ذلك الحين «مباركة انت بين النساء» و «وقفة امام روما» التي وصف فيها بلغة بسيطة توقف جيوش غاريبالدي امام العاصمة الايطالية استعداداً لاحتلالها. ولئن لم تغب الصور الايطالية عن اشعار اخرى في المجموعة، فإن هذه الصور وجدت نفسها ملتحمة في نزوع الى تجديد ثوري اوروبي شامل... كما في قصيدة «سيينا». بينما انتفضت قصائد اخرى ضد الظلم في اشكاله كافة سواء أكان ظلماً سياسياً ام اجتماعياً ام غير ذلك. وفي مثل هذه القصائد اسند الشاعر الى الانسان، لا الى أي قوى ميتافيزيقية او سلطوية، مهمة انتزاع اغلاله... فالانسان إن لم يحرّر نفسه لن يجد ثمة من يحرّره... كما يتجلى هذا خصوصاً في قصيدتي «هيرتا» وفي «أنشودة الى الانسان» حيث لم يكن الكلام اقل من اعلان ثقة مطلقة بالإنسان الثائر وبالآفاق المستقبلية التي يفتحها هذا الإنسان لنفسه بـ «نضاله الحقيقي من اجل حياته وسعادته ومكانته في الكون «لا» من اجل افكار مجردة تصب في مصلحة القوى التي قد لا تكون اليوم في السلطة، لكنها ستصبح فيها غداً، بفضل نضال الإنسان الثائر، ثم تنقلب عليه تبعاً لمصالحها.
> ان سوينبرن ينطلق في أشعار هذه المجموعة كلها، اذاً، من الحرية السياسية ليصل الى الحرية القصوى، حرية الانسان، بالمعنى الأشمل للكلمة. طبعاً لا يخفي سوينبرن هنا، لا سيما في ثنايا القصائد الايطالية الخالصة، ايمانه بالحرية السياسية، غير ان هذه، في رأيه، لا يمكن ان تكون غاية في حد ذاتها. فهي، إن كانت غاية، ستكون قد قادت الثوار الحقيقيين الى الوقوع في فخ قوى سياسية معارضة لا أكثر. الحرية السياسية كما في أشعار سوينبرن، يجب ان تكون وسيلة للوصول الى ما هو أصدق منها وأشمل، وأكثر ارتباطاً بالتوق الحقيقي للإنسان: حريته الداخلية وحريته الدائمة التي تمكّنه في كل لحظة من ان يقول لا... حتى للقوى التي يساندها اليوم، إذ تقدم نفسها كقوى تحرر وثورة، لكنها في حقيقتها ليست اكثر من قوى تسعى الى السلطة، مستخدمة الانسان وقوداً لمسارها السياسي لا اكثر.
> واضح من هذا كله ان سوينبرن انما يدعو هنا الى الثورة من الداخل، وإلى الحرية كفعل تنوير دائم، هو الذي طالما راقب الحركات الثورية وهي تأكل، اول ما تأكل، ابناءها، وتضحّي اول ما تضحّي بأولئك البشر الذين كانوا هم، لا القادة السياسيون، صانعي الانتصار والتحرر. وهذا كله يضع شعر سوينبرن في صف الإنسان، جاعلاً من «ثورته الشعرية» فعل إيمان ينطلق من السياسة، ولكن كي يناهضها مطالباً إياها بأن تتحول الى فعل حرية، لا الى فعل تسلط. غير ان هذا كله بدا، في تلك الأشعار، مخبوءاً في ثنايا حماسة لا حدود لها للثورة الجمهورية الايطالية التي اعتبرها الشاعر نموذجاً لثورة الإنسان، كل إنسان. وكأنه، في اندفاعته الشعرية، يحذرها من ان تكون - في نهاية الامر - شيئاً آخر غير ذلك. ويقيناً ان سوينبرن يبدو في هذا التحذير، أخاً لكل اولئك المثقفين الذين آمنوا بالثورات المتعاقبة وساندوها، ثم خاب أملهم ما إن تحولت تلك الثورات الى دول، او سلطات فانكشفت حقيقتها، ما دفع الحالمين الى الاعتكاف او مواصلة الثورة او الانتحار.
> سوينبرن (1837-1909) على أي حال لم يكن ذلك المصير مصيره. فهو، بعد كل شيء، لم يكن مثقفاً ثورياً محترفاً، ولا كان ثائراً دائماً يستخدم الكلمة سلاحاً. كان شاعراً بكل معنى الكلمة، عاش، خلال حقبة عابرة من حياته، تلك الاندفاعة السياسية القصيرة، ما جعل «أغاني ما قبل الفجر» «حدثاً» عارضاً في حياته الابداعية، اما في ما عدا ذلك فإن اعماله تبدو ثورية في اللغة والصور، ذاتية في معانيها، ابعد ما تكون عن السياسة، وعن مساندة الحركات السياسية سواء أكانت ثورية ام غير ثورية، داعية الى الحرية، ام مستغلّة تلك الحرية لمآرب أخرى.

(الحياة 2014-08-28)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات