على خطى التاريخ ... طريق الحرير

طريق الحرير ، هو سلسلة من طرق التجارة ونقل الثقافة التي كانت محور التفاعل الاقتصادي والثقافي في جميع أنحاء مناطق القارة الآسيوية ، حيث يربط بين الغرب والشرق من خلال ربط التجار والحجاج والرهبان والجنود من الصين إلى البحر المتوسط R03;R03;خلال فترات مختلفة من الزمن ، في طريق يمتد سبعة آلاف كيلو متر ، وحمل اسم " طريق الحرير " من التجارة الرابحة للحرير الصيني التي كانت رائجة على امتداد ذلك الطريق ، منذ عهد أسرة " هان " خلال الفترة ما بين عام 206 ق م ، وعام 220 م .
قبل أكثر من ألفي ومائة عام ، عمل " تشانغ تشيان " ( 164 - 114 ق . م ) خلال حكم أسرة " هان " على توسعة طرق التجارة إلى آسيا الوسطى ، حيث تم منذ ذلك الحين ، تسيير قوافل التجارة التي حملت معها الحرير والشاي وغيرها من السلع من تشانغآن " شيآن اليوم ، عاصمة مقاطعة شنشي " إلى آسيا الوسطى وغرب آسيا وحتى أوروبا عبر طريق التجارة ، وعادت تلك القوافل مرة أخري بسلع ومنتجات تلك البلاد إلي الصين .
كانت التجارة على طريق الحرير عاملا مهما في تطور حضارات الصين وشبه القارة الهندية وبلاد فارس وأوروبا والممالك العربية ، فقد عملت القوافل التجارية عبر تلك المسافات الطويلة على
تطوير التفاعلات السياسية والاقتصادية بين الحضارات ، وإن كان الحرير بالتأكيد مثل البند التجاري الرئيسي من الصين إلي تلك البلاد ، ثم راجت إلي جواره العديد من السلع الأخرى ، وجرى تقاسم مختلف التقنيات والأديان والفلسفات والثقافات ، فبالإضافة إلى التجارة كقطاع اقتصادي ، كان طريق الحرير وسيلة للتبادل الثقافي بين الحضارات السائدة خلال تلك الحقب التاريخية ، وبعد عهد أسرة تانغ " 618 - 907 م " ، تحول المركز السياسي للصين إلى الجزء الشمالي وتحول المركز الاقتصادي إلى الساحل الشرقي والمناطق الجنوبية ، وقد أصبح الشحن عبر البحار الخيار الأفضل لنقل السلع ، ومن ثم تخلى طريق الحرير تدريجيا عن دوره كشريان اقتصادي وثقافي يربط بين الحضارات .
يهدف الحزام الاقتصادي المقترح على طول طريق الحرير " الجديد " إلي تنمية اقتصاديات الدول على طول ذلك الطريق ، على
الرغم من الاعتراف بوجود العديد من العقبات في طريقها ، لكن تم إعداد خطط عديدة لإعادة أيام المجد على طريق الحرير مرة أخري ، حيث تقترح الصين إنشاء نسخة حديثة من الطريق التجاري الشهير عالميا ، ففي الخطاب الذي ألقاه في جامعة " نزارباييف " بكازاخستان في 14 سبتمبر 2013 ، أعلن الرئيس الصيني " شي جين بينغ " عن مبادرته حول ضرورة إحياء طريق الحرير القديم قبل ألفي عام ، وتطويره بحزام اقتصادي ليكون أداة ربط بين الدول ، وكرر الرئيس الصيني المبادرة مرة أخري في أثناء زيارته لإندونيسيا في أكتوبر 2013 ، وذلك بهدف تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بين الصين ودول أوراسيا ، حيث يستهدف ذلك المشروع عبر أوراسيا أكثر من ثلاثة مليارات نسمة ويمثلون أكبر سوق موحدة في العالم ، وامتلاكها لإمكانات لا مثيل لها .
أخذت مبادرة إحياء طريق الحرير اهتماماً كبيراً ، حيث عقدت العديد من الندوات والمؤتمرات في الصين ، والتي شارك فيها خبراء من مختلف التخصصات ومن العديد من الدول ، وكانت الندوة الأكاديمية الدولية التي عقدت في مدينة " اورومتشي " عاصمة مقاطعة " شينجيانج " ذات الحكم الذاتي لقومية الويغور في الفترة من 23 حتي 27 يونيه 2013، وشارك فيها ثمانون خبيرا وباحثا في الشئون الصينية نصفهم من الصين ، والنصف الآخر من 23 دولة ، من بينها : دول آسيا الوسطى والاتحاد الروسي وبيلاروسيا وتركيا وايران والهند وباكستان ومصر .
تتعلق فلسفة المبادرة لتغيير المفاهيم التقليدية في العلاقات الدولية وهي مفهوم الصراع ، ومفهوم المصلحة الوطنية ، ومفهوم الأمن الوطني . وتحويل ذلك لمفاهيم جديدة ، حيث يحل التناغم والتعاون محل الصراع ، وتطوير مفهوم الأمن الوطني ليشمل السلام الإقليمي ، وربما في مرحلة لاحقة السلام الدولي ، وتركيزه على مفهوم القوة الناعمة بدلا من القوة الخشنة ، وهكذا تسعى الصين لإعادة إحياء مفاهيم عريقة من الحضارة الصينية وغرسها في الفكر السياسي الدولي المعاصر معتمدة في ذلك على عاملين ، الأول العامل الحضاري الصيني وانبهار العالم بتلك الحضارة ، والثاني العامل المرتبط بمعدل التنمية السريع والمرتفع وهو ما أدى بكثير من الدول للترحيب بالتعاون مع الصين والتطلع للاستفادة من تجربتها والاستفادة مما لديها من فائض الأموال .
أهمية طريق الحرير للمنطقة العربية والذي يمر عبر طريقين ، طريق الحرير البحري الذي كان بمثابة رابط قوي بين الصين ودول مجلس التعاون ومصر ، حيث مر أحد فروعه عبر سلطنة عمان والبحرين إلى العراق وايران ، واتجه الآخر نحو اليمن والبحر الأحمر ومصر ثم إلى أوروبا ، أما طريق الحرير البري فقد سار عبر آسيا الوسطى وايران وبلاد الرافدين وفرع منه إلى دمشق ثم الإسكندرية ، وفرع ثالث عبر آسيا الوسطى والأناضول إلى أوروبا ، وهذا يجعل المنطقة العربية بوجه عام جزءا لا يتجزأ من مبادرة طريق الحرير لأنه سوف يفيدها ليس لتعزيز التجارة مع الصين فحسب ، بل وأيضا لجذب التقنيات والاستثمارات الصينية .
الحزام الاقتصادي لطريق الحرير له أهمية حيوية من حيث الاقتصاد والدفاع والأمن الوطني الصيني ، فأمن الصين يكمن في تنمية وتطوير منطقة الغرب الصيني ، حيث موارد الطاقة والموارد المعدنية ، ومعظم الموارد الأولية ، فبعد عقود من التنمية السريعة في المنطقة الشرقية ، فقد حان الوقت من أجل إحداث توازن في التوزيع السكاني والعمراني ، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال خطط تنمية طموحة وواعدة ، كما أن تنمية مناطق غرب الصين من خلال طريق الحرير سوف يعمل على تعزيز العلاقات التجارية بين الصين ودول آسيا الوسطى ، فقد بلغ حجم التجارة بين الصين ودول آسيا الوسطى 46 مليار دولار في عام 2012 ، محققا نسبة نمو سنوي بلغت 13.7 ، وتضاعف حجم التبادل التجاري نحو 100 مرة منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين ودول الإقليم .
وقد شكلت تجارة الطاقة الجزء الأكبر من حجم التجارة بين الصين ودول آسيا الوسطى ، خاصة أن دول آسيا الوسطى لديها احتياطي كبير من الغاز الطبيعي والنفط ، في نفس الوقت الذي يتزايد حجم الطلب الصيني على موارد الطاقة ، ومن ثم فإن فرص التعاون بين الصين وآسيا الوسطي تكون كبيرة ، ومع وجود امكانات كبيرة للتعاون في مجالات أخري ، ومن ثم يعتبر الحزام الاقتصادي لطريق الحرير يعمل إلي حد كبير على تأمين إمدادات الطاقة للصين .
وللاستفادة من إمكانات غرب الصين ، أطلقت الحكومة الصينية المركزية استراتيجية الذهاب إلي الغرب ، وذلك من خلال مبادرة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الجديد ، والتي من شأنها تعزيز التنمية المتناسقة للمناطق الصينية الشرقية والوسطي والغربية ، وتصحيح خلل التنمية مع المناطق الساحلية الشرقية ، ودفع عملية الانفتاح ، وفتح آفاق جديدة للتعاون وتنمية العلاقات مع دول الأوراسي ، وآسيا الوسطى ، باعتبارها مورد رئيسي للطاقة والموارد الطبيعية ، خاصة أن الصين سوف يصل احتياجاتها الخارجية من الطاقة إلي نحو 75 % من اجمالي استهلاكها بحلول عام 2020 .
لذلك يجب على الدول المشاركة في طريق الحرير الجديد العمل معا من أجل التكامل في كيفية الاستفادة من مواردها الطبيعية ومنتجاتها الصناعية والزاعية ، بالإضافة إلي كل ذلك فإن عملية تنمية إقليم غرب الصين سوف يقلل إلي حد كبير النزعات الانفصالية ، والحد من التطرف من خلال تنمية العلاقات التجارية والثقافية مع دول آسيا الوسطي التي يدين أغلب سكانها بالإسلام ، وتتشابه ثقافتهم وتقاليدهم وقيمهم إلي حد كبير مع سكان غرب الصين .
تعمل الصين ضمن الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الجديد على أن تكون منطقة غرب الصين قناة خضراء ، وقاعدة استراتيجية ومحطة هامة على طريق الحرير ، وربط مليار نسمة للحزام المقترح بمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى التي تنتمي إلى الثقافة الإسلامية مع سكان جنوب شرق آسيا الذين ينتمون إلى الثقافة البوذية ، حيث يملك سكانهما حضارة عريقة وثقافة راقية ، ولديهما قاعدة سكانية عظيمة ، ويمكن أن يشكلا سوقا هائلة منفتحة بامكانياتهم وقدراتهم وثرواتهم الطبيعية والبشرية والتثقافية والحضارية .
يوجد حماس كبير لدي القائمين على فكرة إحياء طريق الحرير ، وقد تمت خطوات عملية في هذا الشأن ، ففي عام 2010 ، تم إنشاء منطقة اقتصادية خاصة في كاشغر شينجيانغ ، باعتبارها مركزاً تجارياً لدول المنطقة ، بما في ذلك باكستان وكازاخستان ، شملت فنادق ومنطقة تجارة حرة معفاة من الرسوم الجمركية ، وفي عام 2011 تم شحن السلع والمنتجات عبر خطوط السكك الحديدة عبر أوراسيا ، وفي عام 2012 ، تم إنشاء منطقة تجارة حرة في هورجوس فى شينجيانغ ، التي تقع على الحدود بين الصين وكازاخستان ، باعفاءات جمركية ، ومن ثم يمكن القول بأن البداية وإن كانت محدودة لكنها تسير بوتيرة متفائلة من أجل إحياء طريق الحرير الجديد بحزامه الاقتصادي الكبير .
الحماس والتفاؤل الكبيرين ، لا يعنيان أن انجاز الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الجديد يسير بسهولة ويسر ، فهناك تحديات كبيرة أهمها : الظروف السياسية والاقتصادية المعقدة والمنافسة بين القوى الكبرى ومدي تأثيرها على المنطقة ، ومن هنا تأتي العقبات والتحديات التي تواجه عملية إنشاء الحزام الاقتصادي على المدى الطويل ، هذا بالإضافة إلي أن المدن الصينية على طول الحزام الاقتصادي هي مناطق أقل نمواً وليست بها كثافة سكانية عالية ، وتكاد تنعدم فيها البنية التحتية ، ويتطلب ذلك استثمارات ضخمة ، وفترة زمنية أطول لتشكيل الحزام الاقتصادى الكامل ، الأمر الي سوف يستغرق عدة عقود على الأقل لتغيير الأوضاع في تلك المناطق ، ويتطلب ذلك تشكيل مجتمع اقتصادي وتجاري في أقرب وقت ممكن ، والتي من شأنها أن تزيد كثيراً من قدرة المفاوضات بين الصين والدول الأخري المشاركة في طريق الحرير الجديد ، وكذلك المساعدة في تشكيل التقسيم الاقتصادي المتناسق داخل الصين ، والتي تشبه في الوقت الراهن " اللؤلؤة المتناثرة " التي تحتاج إلي سلسلة لجمعها وجعلها قلادة رائعة .
(الديار الأردنية 2014-09-20)