الاختلافات الفقهية والحيل على حافة الربا

في عام 2004 كانت جلسة فقهية عاصفة تضم كبار فقهاء العصر احتدم النقاش حول مسألة إجارة العين لمن باعها، فبدا المجيز وكأنه يقطع بذلك، مستدلًا بنظائر من العينة والوفاء والاستغلال وعكس العينة وأن المسألة ليست من أي منها، وبدا المانع يقطع بالمنع مستدلًا بالنظائر نفسها. في هذه اللحظات كان الشيخ الحنبلي ذو الكعب العالي في الفقه الحنبلي يصغي بهدوء لوجهات النظر، بينما كان عضو اللجنة الدائمة لكبار العلماء في المملكة الدكتور أحمد سير المباركي يطلب من الطرف المانع أن يحافظ على هدوئه، ويستمر في طرح وجهة نظره. وبينما بدا أن الأمر سائر إلى طريق مسدود طلب الكلمة أحد هؤلاء الكبار.
كان هو الدكتور محمد جبر الألفي الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام وكان هادئًا ليقول فيما معناه: رويدكم أيها المانعون، ألم يجز الإمام الشافعي العينة، وفقهاء الحنفية الوفاء؟ وكأنه يريد أن يقول: إن مساحة الاختلاف في المعاملات المالية كبيرة جدًا وتحتمل ما تظنونه ربًا وقد سبقكم إلى هذا الكبار. هنا هدأت النفوس وبدا الأمر في نصابه؛ خلافا فقهيا وإن بدا حادًا؛ إلا أنه لا يحتمل القطع في أحد الاتجاهين وانتهت الجلسة لتترك الموضوع مفتوحًا إلى جلسات مجمع الفقه الإسلامي الدولي التي عرض فيها الأمر أكثر من دورة فآل إلى إصدار قرار بشأنها في الدورة ما قبل الأخيرة (العشرين) في الجزائر.
هناك عناوين كثيرة في فقه المعاملات المالية الإسلامية قال بها فقهاء كبار، لكن تصنف في إطار الحيل، ولا يمكن القطع بحرمتها وإن اتجهت الاجتهادات الفقهية المجمعية المعاصرة إلى المنع منها لشبهة الربا. ومن هذه المعاملات بيوع العينة، وعكس العينة، والوفاء، والاستغلال،، ويبدو الموقف الفقهي منها حساسًا لقربها من الربا، فكلها تدور حول استخدام السلعة بغرض توفير السلف أو القرض بعائد مشتبه.
فأما العينة فهي أن يبيع سلعة بالأجل ثم يعيد شراءها نقدًا من المشتري نفسه، وعكس العينة أن يبيع سلعة بنقد عاجل، ثم يشتريها مؤجلة من المشتري نفسه. وأما بيع الوفاء (ويسمى بيع الرجاء، أو الأمان) فهو أن يبيع داره ويقبض الثمن بشرط إن رد الثمن رد المشتري الدار، وتكون الدار لدى المشتري كرهن وينتفع بها قبل الرد. وأما الاستغلال فهو أن أن ييبع داره ويقبض الثمن بشرط أن يستأجرها البائع من المشتري، أو هو بيع الوفاء مع شرط استئجار البائع للدار من المشتري، والفرق بينهما أن نفع البائع المشتري في الوفاء هو الانتفاع بالعين، وفي الاستغلال هو الحصول على أجرة العين.
وفي هذا السياق من الاختلافات الفقهية الحادة ظهرت موجة جامحة من بعض المعاصرين لوصف المعاملات المصرفية الإسلامية بالحيل، ووصف العلماء العاملين في الهيئات الشرعية للبنوك بأهل الحيل، وبدا مضمون الرسالة مشككًا في كل شيءٍ، وكأن الحرص على الدين ومحارم الله أصبح حكرًا على الأجرأ ومن يلقي التّهم جزافًا، ولهذا نستدعي ما قاله الدكتور الألفي في بداية المقال لنقول لهؤلاء: رويدكم؛ الحيل منها ما هو مقبول شرعًا، ومنها ما هو محرم، ومنها ما هو محل خلاف، فالهدوء الهدوء بارك الله بعلم الجميع.
فقد ذهب بعض المعاصرين إلى إطلاق وصف الحيل على المرابحة للواعد بالشراء، والإجارة المنتهية بالتمليك، والاستصناع والاستصناع الموازي، والسلم والسلم الموازي، وغير ذلك من معاملات البنوك الإسلامية، وقصد بذلك المعنى المذموم للحيلة وألقى بالشبهة على جمهور الناس دون تفصيل، وهذا قد جانب الصواب في النظر إلى مسائل الاختلاف في المعاملات المالية خاصة، فما ذكر من معاملات أجيز برأي المجامع والهيئات الشرعية بتأصيل وتفصيل فقهي معتبر.
إن القاعدة الفقهية في المعاملات هي (الأصل في المعاملات الحل، والجواز، والصحة)، وهذه القاعدة تساند المجيز على حساب المانع ما لم ندخل في الربا أو شبهته القوية الظاهرة لأن شبهة الربا كالربا، ولا ينبغي التعسف في التحريم باستخدام عنوان الحيلة لأنه مضلل وبصفة خاصة لغير المتخصصين.

(السبيل 2014-09-25)