عظمة ديناصور بين سوريا والعراق

حين زرت سوريا والعراق في ثمانينيات القرن الماضي، كان لافتا لي، وليس مفهوماً، كيف أن الجدران واللافتات هنا وهناك رصعت بذات الشعارات والعبارات، مع اختلاف المواقف والسياسات. فالحزب الواحد.. غدا حزبين!
في كل شارع سوري أو عراقي تقريبا كنت تقرأ عبارات: العمل شرف ومن لا يعمل لا شرف له، والشهداء أكرمنا جميعاً، وأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، ووحدة حرية اشتراكية جنبا الى جنب علم البعث.
وبلغ من حيرة الناس إزاء توحد البلدين في المنطلقات والفكر الحزبي وتصارعهما في السياسات أن راجت نكتة تتحدث حول الفرق بين مذيع التلفزيون السوري ومذيع التلفزيون العراقي؟ وكانت الاجابة أن ربطة عنق مذيع التلفزيون السوري تميل الى اليسار قليلا، فيما تميل ربطة عنق المذيع العراقي الى اليمين قليلا. ولذلك سبب: فالبعث الذي تأسس أصلا في سوريا، لم يلبث أن انشق، حتى قبل وصول الحزب الى حكم العراق، وتكونت قيادتان له الأولى في سورية والثانية في العراق، وكان البعثيون العراقيون الذين يدينون بولائهم الفكري للبعث السوري، يطلق عليهم في العراق المنشقين أو البعثيين اليساريين، في إشارة الى أن تصرفات البعث العراقي كانت يمينية.
ولأن الناس في الشارعين السوري والعراقي آنذاك وحدويون وحساسون وعاطفيون، فقد كانت الفروق تقريباً تنعدم بينهما، وكانا على ثقة من أنه -بالرغم من كل شيء- إلا أن الوحدة ستجمعهما يوماً ما. خصوصا وأن الحزب الحاكم في البلدين.. واحد.
بعد انقلاب 17 يوليو (تموز) تعمق الخلاف، ببروز قيادة قومية وقطرية للحزب في العراق على الضد من القيادة القومية الأصلية في سورية، ثم تمكن الجناح العراقي من استقطاب مؤسس البعث ميشيل عفلق وبعثيين قياديين آخرين مثل الياس فرح جنبا الى جنب بعثيين سودانيين وأردنيين ويمنيين وسوريين ولبنانيين وغيرهم، وفي المقابل هرب البعثيون العراقيون المعترضون على ممارسات صدام حسين الى دمشق.
إبان حرب 1973، تعالى العراق عن تلك الخلافات وأرسل قواته لدعم الجبهة السورية، وكان لمقاتليه شرف صد الهجوم على دمشق وحمايتها، وكان منتظرا ان يكون لذلك الموقف اثره في إحداث تقارب بين الأخوين اللدودين، وأذكر ان عشرات الصحف والمجلات خصصت حيزاً للحديث في هذا الاطار.
وأثمر هذا التقارب عن توحيد قيادة البعث واعلان الوحدة بين سوريا والعراق عام 1979، واختير الرئيس أحمد حسن البكر رئيسا لدولة الوحدة وحافظ الاسد نائباً للرئيس، على ان يتبادلا المنصبين، وهكذا صار بإمكان مواطني الدولتين عبور الحدود دون جواز سفر ليدركا أن الفروق بينهما انما صنعها الاستعمار.
هذه الحالة الايجابية لم تستمر، ففي نفس العام نقضت الوحدة، وعاد الوضع الى ما كان عليه، من عداء وخلاف، لدرجة ان الادبيات السورية تنكر أي دور للجيش العراقي في القتال ضد إسرائيل في أثناء حرب 1973.
يقال إن رجل العراق القوي آنذاك ونائب الرئيس صدام حسين هو السبب، فقد أدخلت قوى داخلية وخارجية في خلده ان اتفاق الوحدة يستهدفه شخصياً لإبعاده عن المشهد السياسي. التطورات التي حصلت عام 1979 أدت إلى استقالة البكر وتنازله عن جميع صلاحياته لصدام حسين، وأعقبها الإعلان عن مؤامرة سورية بالتعاون مع بعض أعضاء القيادة العراقية، والفتك ببعض عناصرها.
حين دخل صدام حربه ضد ايران التي استمرت ثماني سنوات وقفت سوريا مع ايران، وظلت تناصبه العداء حتى سقوط نظامه عام 2003، كما شاركت في التحالف الدولي ضده بقوات برية.
الآن.. بعد أزيد من ثلاثين عاما على مروري بأرض سوريا والعراق، لا شك ان الصورة ستختلف، فلا تلك الشعارات بقت، ولا الخلاف القديم، فقد ظهرت مكانها شعارات جديدة وأحزاب وتنظيمات وحروب جديدة وخلافات أشد وأوسع، والشعب على جانبي الحدود تشرد ويبحث عن خيمة لجوء وأمن، فيما فكرة الوحدة بالنسبة له تبدو مبهمة.. كعظمة ديناصور من عصور قبل التاريخ عثر عليها مجموعة من الرعيان!
(السبيل 2014-10-14)