فن الإحباط

يتذكر العالم هذه الأيام الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى (1914-1919)؛ كيف قاد التطرف السياسي إلى اشتعال تلك الحرب القاسية، وكيف قادت نتائج الحرب إلى نمو نظم سياسية متطرفة، قادت إلى حرب عالمية أخرى أكثر وحشية وقسوة.
وعلى الرغم من أن جذور ما يحدث اليوم في المنطقة العربية يرجع إلى تلك الحقبة، إلا أن البعض يرى فيما يشهده العالم العربي الآن هو نهاية تلك الحقبة. وعلى كل الأحوال، فإن علينا الالتفات إلى ما يشبه القانون الاجتماعي والسياسي الذي يتكرر في مجتمعات وحقب عديدة، ومفاده كيف يخلق التطرف الإحباط، ولا يأتي الإحباط إلا بالمزيد من التطرف؛ ليس في السياسة والمجتمع، بل وفي الأفكار والآداب والفنون والفلسفة.
بعد كل هذه الأعوام على نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث ميلاد الحركة "الدادائية"؛ إحدى حركات التمرد والرفض والإحباط والعبث في الفن والأدب، والتي أوجدتها تلك الحرب، عادت حالة الإحباط بقسوة مرة أخرى مع "دادائية" جديدة في السياسة، ثم في الآداب والفنون، تحمل ما خلفته حربا أفغانستان والعراق، والسجون السرية والمعتقلات الموحشة، من إحباط وغثيان وآلام. ثم أتت الموجة الجديدة من الإحباط واليأس التي تنتاب معظم المجتمعات العربية، بعد المصير الذي آلت إليه التحولات العربية، مصحوبة بشحنة عالية من النقمة الصامتة والتطبيع مع كل شيء، حتى أقسى حالات التطرف وأكثرها بشاعة.
قبل عدة أعوام، استقبلت "القاعة الوطنية للفنون" في واشنطن العاصمة، أكبر معرض عن "فن الإحباط"، أو "الدادائية"، الذي انتشر مع الحرب العالمية الأولى. وربط الجمهور ووسائل الإعلام بين هذا المعرض، وبين ما آلت إليه الحرب في العراق وأفغانستان من وقائع. وربما يجد الباحثون في الحروب الجديدة صدقا فنيا للدادائية، أكثر من الحرب العالمية الأولى؛ في واحدة من غرف المعرض، سميت مجازاً بغرفة حرب العراق. وهي في الحقيقة تعكس حالة الإحباط في الحرب الأولى، حيث تُعرض صور جندي مقتول، وكمامة غاز لطفل، ويد مقطوعة من البلاستيك عليها بقايا دم، وجندي من دون رأس، وآخر اختفى نصف وجهه.
ماذا عن "الدادائية الداعشية" الجديدة؟ كيف نتصور انعكاسها في الآداب والفنون؟ وهل سنكون قريبا أمام إنتاج "فن إحباط" خاص بها؟
كانت حركة الرفض والاحتجاج، في الأصل، برنامجاً سياسياً تجاوز الفن والأدب، أخذت مكانتها في برلين، وانتقدت بقسوة مُرّة شروط استسلام ألمانيا. ويشير العديد من المفكرين إلى أنها مهدت المناخ الفكري والثقافي لظهور النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا؛ وكأن هذا الحدث الرمزي يوضح إحدى الصفحات الغامضة التي تقف خلف حالة الإحباط والمدارات الحزينة الجديدة.
قبل عشر سنوات، ظهرت في المكتبات الأميركية رواية لكاتب يدعى روبرت فرينو، تدور أحداثها في مدينة سياتل؛ عاصمة الجمهورية الإسلامية في العام 2040، والتي تم تأسيسها منذ ربع قرن، بعد هجمات نووية دمرت مدينتي نيويورك وواشنطن، واتهمت بتنفيذها إسرائيل والصهيونية. وقد أدى هذا الوضع إلى تدمير الاقتصاد الأميركي والنظام السياسي وانتشار الفوضى، مقابل انتشار الإسلام في الولايات الشمالية، وتأسيس الجمهورية الإسلامية الأميركية العتيدة التي بقيت على علاقات صدامية مع الجمهورية الأميركية المسيحية في الولايات الجنوبية. إلا أن مسار الأحداث في الرواية يختلف حينما تتوصل مؤرخة مسلمة إلى أدلة تنفي تهمة قيام إسرائيل بالهجمات النووية، وتكشف عن تورط ثري مسلم متطرف في التخطيط للهجمات. وإذ تختفي الفتاة في ظروف غامضة، توكل مهمة العثور عليها لشاب أميركي مسلم، تتحول مهمته الحقيقية نحو القضاء على المتطرفين، وإعادة بناء أميركا جديدة من دونهم.
( الغد 2014-10-18 )