من الإنسان المقنع إلى الإنسان العاري

مع أن الإنسان يولد عارياً كأي حيوان، إلا أن المجتمع البشري الذي نشأ بالزراعة واستقر بها، فيما يعرف بمدن وقرى وأرياف، صار يصنع الحضارة: مدنية وثقافة، ويطورها. فأخذ يكسو جسمه ونفسه بالأقنعة واحداً وراء آخر. وصار كلما أوغل في السن أو في التعلم أو في كليهما، وتفاعل مع بقية الأفراد والجماعات الضيقة أو الواسعة، المحلية وغير المحلية، يلبس قناعاً وراء آخر ليقتحم أو يخادع أو يصل أو ينجو... مما جعل أحد المفكرين يقول: "ليس القرد سوى إنسان بلا أقنعة".
أما اليوم، أو على الأصح في عصر الأقمار الاصطناعية والكاميرا والتلفون الخلوي والكمبيوتر والإنترنت وأجهزة الكشف عن المواد الإرهابية في المعابر والحدود البرية والبحرية والجوية، فقد أصبح الإنسان عارياً تماماً، كما ولدته أمه؛ ليس رمزياً فقط، بل حسياً أيضاً. وعندما ترغب جهة استخباراتية، أو يرغب القراصنة في التنصت/ التجسس عليه، فإنهم لا يحتاجون إلى جواسيس يلاحقونه ويتابعون أقواله وحركاته، وإنما إلى توجيه الأجهزة عليه، أو اختراق أجهزته.
وعليه، لا يقنعني أحد بأن هاتفاً خليوياً، أو كمبيوتراً... يخلو من شريحة ما (Facility) تسهل اختراق هذه الأجهزة عند اللزوم وصاحبها لا يدري.
لقد كان الإنسان في العهود الماضية؛ عهود الدكتاتورية والعادات والتقاليد والتنصت والتجسس بالملاحقة البشرية، يلبس كل يوم قناعاً يحميه. أما اليوم، فقد أصبح عارياً؛ رمزياً وحسياً، ومخترقاً.
إن استنكار فرنسا وألمانيا الشديد للتنصت/ التجسس الأميركي عليهما، لا يعني أنهما لا تفعلان الشيء نفسه، ولكنهما ترفضان التنصت الخارجي عليهما بحجة انتهاك مبادئ السيادة، بالمعرفة (المسبقة) لما يخطط له كل منهما أو يفعلانه وإفشالهما وتعطيل أميركا لهما عندما يتعارضان مع سياستها.
لا يقتصر التحول البشري التاريخي هذا على تعرية الإنسان ونزع أقنعته، بل على تحويل الإنسان من مخلوق إلى مصنوع أيضاً.
لقد ظلّ الإنسان -طيلة العصور السابقة- ابن إرثه البيولوجي وتكوينه البيئي أو الطبيعي. ولكنه صار اليوم يُصنَّع ويُشكّل كما أي سلعة بالهندسة الجينية، والأغذية المبرمجة، والأدوية المحوّلة، والأصباغ الكاذبة والماكياج المطلوب، والوسائل التكنولوجية، والعمليات الجراحية والتجميلية، والوشم: شكلاً ولوناً وجلداً وقلباً.
كان الإنسان ابن الطبيعة وربيبها، ولكنه (بحضاراته عبر العصور) انتهى إلى العبث فيها، فتلاشت، لتحل الصناعة والتكنولوجيا محلها. صار الإنسان نفسه ضحية لهذا العبث، وبالهندسة الجينية، كالسلعة التي يمكن تفصيلها حسب الرغبة أو الطلب.
( الغد 2014-10-24 )