المجالي وطاقية الأحزاب و المجتمع

لا يختلف اثنان على قوة حضور الباشا عبد الهادي المجالي في المشهد السياسي منذ عقود ثلاثة ، بوصفه اول من التفت الى ضرورة تنشيط الحياة الحزبية الأردنية منذ عودة الحياة البرلمانية والغاء الاحكام العرفية ، فبدأ بحزب العهد بداية التسعينيات من القرن الماضي ، وتكررت محاولاته لاحياء الأحزاب تارة بالتوحد وتارة بالائتلاف ، وخلال لقائه مع أسرة الدستور أمس الأول وجه الرجل اتهاماته لقوى الشد العكسي في احباط التجربة الحزبية التي تحظى بدعم ملكي خالص .
الحياة الحزبية في الأردن تعاني من اختلالات جوهرية وبنيوية ، فبدايتها كانت مربوطة بمدرستين متناحرتين ، القومية بشقيها القومي اليساري واليساري اليساري مع الأحزاب ذات المرجعية الدينية ، وشهدت الساحة الأردنية ولادة تيارات سياسية متعددة مربوطة بالجذرين السابقين ولم تعرف الحالة الأردنية تجربة الاحزاب البرامجية الا في بدايات التسعينيات من القرن الماضي .
الاعتلال البنيوي المصاحب لولادة الأحزاب الشمولية التي أرادت رأسا للطاقية الفكرية الشمولية ، اصابت الاحزاب الوطنية « بمعنى انتمائها للفكر الوطني المحلي « التي باتت تبحث عن كوادر حزبية على قياس زعيم الحزب وليس برنامجه ، فعرف الناس الاحزاب الجديدة بأسماء زعاماتها ، ولما كانت الطاقية لا تتسع إلا لرأس واحد فقد فشلت الاحزاب الوليدة وتشظّت الى ما يشبه الدكاكين السياسية ورعت اوساط رسمية هذا التشظي بالقانون والدعم كما قال المجالي في صحيفة الدستور .
اعتلال التجربة الحزبية يمكن تفسيره بالطريقة السهلة والمبتسرة بإلقاء اللوم على الاجهزة الرسمية التي روّعت الشارع الشعبي من الاحزاب فنأى الشارع عن الحياة الحزبية مقابل لقمة العيش والوظيفة وهذا سبب لكنه ليس كل الاسباب بدليل ان الحياة الحزبية في مرحلة الاحكام العرفية وما قبلها كانت حاضرة بقوة في المشهد الشعبي وفي النقابات المهنية والعمالية اضعاف وجودها في مرحلة ما بعد العرفية وحصول الاحزاب على ترخيص رسمي .
القراءة السابقة سهلة ويمكن الحصول من خلالها على شهادة براءة ذمة شعبي او حزبي ولكنها شهادة مجروحة ، لأن احدا لم يلتفت الى التغير في انماط المجتمع الاقتصادية والديمغرافية ، فطوّر برامجه لتتماشى مع هذا التغير لتُجيب على اسبابه وتجترح الحلول لاوجاعه ، فبقيت الاداة القديمة نفسها للتعامل مع جيل شاب مُقبل على الوسائل الحديثة في المعرفة وتصله المعلومة طازجة ، ولم يلتفت احد الى الارتفاع الهائل في نسبة التعليم الجامعي فحاول تغيير لغة الخطاب الشمولي ليلامس أوجاع وآمال الواقع الأردني .
الاحزاب اليسارية بقيت اسيرة انهيار الاتحاد السوفييتي ولحقتها الاحزاب القومية بحصار العراق وخسارة حرب احتلال الكويت ، ولم يسعَ طرفا من اطراف المعادلة الى تحديث افكاره لمواجهة الهزيمة الكونية بوسائل محلية كما واجهت الأحزاب نفسها نكسة حزيران بالتحول نحو الماركسة اللينينية واستلهام تجارب فيتنام وكوبا في التحرير بصرف النظر عن موقف بعض الساسة من هذه النماذج لكنها نجحت في ايقاظ الأحزاب والشوارع من سباتها واحيت الامل مجددا على عكس استجابة الأحزاب بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وحصار العراق .
الأحزاب الدينية استفادت من سقوط الاتحاد السوفيتي شعبيا ونجحت في استثمار هذا السقوط المدوي فطرحت نفسها بديلا للقوميين واليساريين ونجحت مؤقتا في ذلك ، لكنها عجزت عن استيعاب مبدأ الاعتماد على الذات بعد استنفاذ شروط دعمها كجزء من الحرب الباردة التي وفرّت للأحزاب الدينية وتحديدا الاخوان المسلمين حواضن متعددة ومساحات واسعة من الحركة ، فبقيت اسيرة السماح الرسمي ولم تجتهد في امتلاك برامج وطنية باستثناء برامج الاغاثة والصدقات ، فدفعت لاحقا ثمن قلة وعيها للمرحلة وسرعان ما خرجت من اللعبة الرسمية بعد انقلابها على شروط التعايش ومساحات التوافق .
التجربة الحزبية تحتاج الى مراجعات كثيرة والى اعادة بناء قواعدها على أسس جديدة يكون عمادها استلهام الواقع واجتراح الحلول له بدل الجلوس على المقاعد الوثيرة وتوجيه الجماهير التي لا تعرف الأحزاب اساسا وهذا بيت القصيد اما انتظار قاطرة الخلاص الرسمي لتحمل احدهما الى مقعد وثير فسيضاعف من ازمة الاحزاب ويقلل من انحياز الناس لها ولتجاربها وهذا ما وقعت فيه الاحزاب التي قبلت الصعود في قطار الحكومة دون تحديد قبلي لمكان الجلوس والمشاركة في تحديد سرعة واتجاه القطار .
(الدستور 2014-11-20)