الشيخ والربان ... أحمد اللوزي

كان من المؤكد أن يأمر الملك عبدالله بأن يشيع فقيد الأردن وعميد رؤساء الحكومات بجنازة رسمية، وأن يدفن بالمقابر الملكية، فمثل شخصية المرحوم أبو ناصر لا تتكرر كثيراً في تاريخ الأردن.
وليس صدفة أن يكرم الملك عبدالله الفقيد أحمد اللوزي بزيارة قبل فترة وجيزة إلى منزله، وهو الذي أخذت العقود التسعة من جسده، ولكن لم تنل من ذاكرته ودفء معشره، وتعمد الديوان الملكي أن ينشر صورة الملك وهو يمسك بيد اللوزي في لقطة نادرة ومعبرة عن التقدير والامتنان لرجل عايش تاريخ الأردن منذ أكثر من نصف قرن.
ولم يكن ايضاً اختيار مكان بيت العزاء أمام صرح الشهيد عبثياً، فهو يحمل من الدلالة ما يفيض، فاللوزي شهيد وفقيد وطن، يستحق أن يظفر بلقب الشهيد المنافح عن وحدة الوطن بكل أطيافه ومكوناته، فقد عاش كل أيامه وحدوياً يجسد التلاحم بين الأردنيين، فهو قاسم مشترك حين يشتبك السياسيون ويختلفون، فيعودون له ليجمع ما فرقته المناكفات والصراعات.
حين أطل الربيع العربي بتداعياته على الأردن وصار تعديل الدستور ضرورة، كان الراحل أحمد اللوزي الربان الذي اختير لرئاسة اللجنة الملكية لتعديل الدستور، وطوال أسابيع من النقاش لم يكن هذا الكهل صاحب رؤية متحفظة، بل سباقاً في استشراف المستقبل، واستلهام الدروس من ماضٍ وتاريخ عاشه وتعلم منه، فكان مع تعديلات دستورية أكثر انصافاً للمرأة الأردنية، ومع تحصين الدستور من التجاوز عليه.
منذ 25 عاماً وأنا على معرفة بالراحل أحمد اللوزي، وكلما اقتربت منه أيقنت أنه ذاكرة الأردن، يروي سيرة الوطن غير المدونة، ويقدم الحكاية دون كثير من الرتوش.
قبل ثلاثة أيام من رحيله ذهبت الى منزله لألتقي نجله وصديقي العزيز ناصر، ولأحظى بفرصة لقاء قصير معه، لأنني كنت أعلم بأن الزمن ينال منه وهو على أبواب التسعين، غير أن وضعه الصحي حال دون تمكني من سماع صوته لآخر مرة.
وقبل أكثر من 17 عاماً كتبت في جريدة الحدث "بورتريه" عن أحمد اللوزي تحت عنوان "الشيخ" في محاولة لاستحضار هذه الشخصية، وسبر مكوناتها، واستنطاقها.
ما كتبته قبل 17عاماً يصلح لأن يعاد كتابته مجدداً، فالأيام تغيرت، وما تغير اللوزي.
قلت "حين يستذكر السياسيون تاريخه يتوقفون ويجمعون على حبهم له وعلى حبه للجميع، فلم يترك يوما عداوة او خلافا مع أحد.
هذا “الشيخ" ما ترجل عن خيله منذ ما يزيد على نصف قرن، وكان طوال السنوات حاضرا" كرسول للهاشميين“، تغيرت مواقعه وتغير الناس من حوله وما تغير، ظل قابضا على جمر "الولاء" في زمن الأزمات والانقلابات، فكان محط الثقة حين تشتد "الرياح العاتية" وحين يبحث الربان عن مرفأ آمن للسفينة.
أكثر من نصف قرن وهو يعمل، تعبت الأيام وما تعب.
من السلط صانعة رجالات الدولة إلى مجلس الملك رحلة تحفر في الذاكرة وأيام ومواقف ومواقع لا يستطيع السياسيون تقليب كل صفحاتها.
لا يعرفه السياسيون حزبيا معارضا، لكن في حياته أسرار لا يخجل منها، فقد كان بعثيا حين كان يدرس في بغداد عامي 1948 و1950 ولكنه وحين عاد الى عمان ترك "البعث" ولم يعد لأي نشاط حزبي بعد ذلك التاريخ.
التدريس في مدرسة السلط كان بداية مشواره المزدحم بالأحداث، ومن التدريس في اوائل الخمسينيات الى الديوان الملكي حين عمل مساعدا لرئيس التشريفات الملكية، ثم التحق بوزارة الخارجية رئيسا لقسم المراسم، ثم مساعدا لرئيس الديوان الملكي حين كان بهجت التلهوني رئيسا له.
ومن الديوان الى مجلس الملك حين اختاره الحسين في مجلس الأعيان، وأصبح بعد ذلك وزيرا للشؤون البلدية والقروية، وكان هذا اول منصب له بالسلطة التنفيذية.
ومن السلطة التنفيذية الى السلطة التشريعية نائبا لمرتين متتاليتين، وعاد وزيرا للمالية في حكومة المرحوم وصفي التل، وعندما توفي التل عهد إليه الحسين بتشكيل حكومته الاولى عام 1971، وعاد في عام 73 ليشكل حكومته الثانية، وفي عام 78 عين رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري.
عام 79 عاد الى “بيت الأردنيين" ليعمل رئيسا للديوان الملكي، ومنه رئيساً لمجلس الأعيان عام 84 وربما كان أكثر من شغل هذا الموقع".
وختمت: "إنه أحمد اللوزي، شخصيته لا تعرف "الصدام" والمؤامرات، ودبلوماسي حد الاستفزاز "وقاسم مشترك" حين يحتدم خلاف المدارس السياسية في الاردن".
رحل أحمد اللوزي، وكرمه الناس في حياته، ولم ينسوا دوره ومكانته حين توفي، وسيحفظ الأردنيون سيرته، وسيخلدونه في وجدانهم وتاريخهم.
الغد 2014-11-23