متواليات العشوائية الاجتماعية والعمرانية

المشكلة الكبرى في مشروعات الإسكان بخاصة وفي المدن بعامة، أن السكان لا يشاركون ولا يؤخذ برأيهم في تخطيطها، برغم أنهم المستهدفون أساسا بهذه المشروعات، وأنها بنيت لأجلهم! ثم تنشأ عن هذه المسألة متوالية من الأزمات الكبرى والمتفاعلة. إذ يحاول هؤلاء السكان التوفيق بين تطلعاتهم وأفكارهم وأسلوب حياتهم، وبين المدن والمباني والبيوت القائمة والمصممة على نحو مختلف، فتقع انتهاكات ومشكلات أخرى كبيرة؛ امتداد البيوت والعمائر إلى الارتدادات، وانتهاك الرصيف، سواء بزراعته أو الاصطفاف عليه أو استخدامه للتجارة أو محاولة الاستيلاء عليه وضمه للبيوت والمحلات التجارية، كما إغلاق الشوارع لأجل بيوت الفرح والعزاء. وهم لا يفكرون، طبعا، في إعادة تنظيم الأفراح وبيوت العزاء بما يتفق مع التخطيط القائم للمدن والمباني، والحاجة للتزاور، كما كانت الحياة من قبل، فتنشأ ضوضاء وأزمات في العلاقات.
والعشوائية في قدوم الناس من دون إقامة علاقة قائمة حول المكان؛ الأرصفة والحدائق والبلديات والمكتبات والأندية.. تجعل حياة الناس موحشة. وتعوض هذه الوحشة بتجمعات الأقارب والأصهار. وعدم وجود مدارس أساسية قريبة، وعدم الأمان في الشوارع والأرصفة، يجعل ثمة حاجة لنقل الأولاد إلى المدارس ومنها بالسيارات. وتتحول عمليات النقل هذه إلى سلسلة عمليات اقتصادية وتقنية واجتماعية؛ فينشأ أسلوب حياة ومواعيد لتنظيم نقل الأولاد ثم الذهاب إلى العمل والعودة وفق برامج المدرسة. وفي هذه العمليات، تنشأ أزمة مرورية وهدر في الأوقات والطاقة والطرق والبنى الأساسية، وتتعرض لحمل كبير يفوق طاقتها الاستيعابية وقدرتها المادية، فتهترئ وتترهل. وفي الأزمة، تنشأ حوادث مرورية وشجارات، وفي ذلك متوالية من الخسائر المادية والبشرية والضغوطات الاجتماعية والعصبية. كما تزيد حصة النقل والمواصلات في الإنفاق، والذي يكون على حساب ضرورات معيشية أخرى؛ فيتراجع مستوى المعيشة. إذ تختفي، أولا، ميزانية الكتب والثقافة والموسيقى والفنون والتبرعات والمساهمات الاجتماعية، ثم تنخفض نفقات الطعام واللباس والدواء، فتغمر السوق أطعمة وألبسة وأدوية تتفق مع انخفاض الموارد.
ويتجه المواطنون إلى زيادة دخلهم، فتنشأ سلسلة أعمال إضافية؛ قانونية أو غير قانونية. في الحالة الأولى، لا يعود المواطن يملك الوقت الكافي للعمل الاجتماعي والثقافي والتطوعي، فيتراجع هذا القطاع ويضمر. وتنشأ، في الحالة الثانية، اقتصادات وموارد جديدة قائمة على الفساد والرشوة، أو مخالفة للقانون، فمثلا، حتى الذين يرسلون أولادهم إلى مدارس خاصة مكلفة ماليا أكثر من طاقة الطبقات الوسطى، يجدون أنفسهم بحاجة إلى معلمين خصوصيين لأنه في متوالية الفشل هذه عندما يتراجع التعليم الحكومي يتراجع أيضا التعليم الخاص؛ فالناس مقبلون على التعليم الخاص من غير تنافس مع القطاع العام، ولا يعود القطاع الخاص في حاجة لتحسين خدماته، بل يصبح المواطنون في علاقتهم مع المدارس الخاصة في حالة إذعان وابتزاز.
وفي المتوالية الاجتماعية للفساد، فإنه تنشأ حوله طبقة تنشئ التزامات اقتصادية ومعيشية قائمة عليه، تتمثل في أسلوب حياة مكلف، فيتحول الفساد إلى منظومة تملك قواعد اجتماعية وتحالفات سياسية، تجد مصيرها وفرصتها في الدفاع عن الفساد وإدامته والتصدي بيأس للإصلاح والطبقات الاجتماعية والاتجاهات السياسية المطالبة بالإصلاح.
وفي أزمة الناس الاجتماعية والثقافية والروحية، والشعور بالغربة وقسوة الظروف والحياة، تكون الإجابة السهلة والعملية هي الدين. فيقبل الناس على التدين في بحثهم عن المعنى والجدوى، ولمواجهة الشعور بالضآلة والضياع في هذه المدن العشوائية القاسية. وتنشأ حول التدين والقرابة منظومة اجتماعية وسياسية قوية ومتماسكة، لكنها منفصلة عن أولويات الناس ومشكلاتهم. وهكذا تستمر متوالية الشر بلا توقف ولا حدود!
في المقابل، فإن عمليات تنظيم اجتماعي وعمراني ملائمة للناس يمكن أن تحوّل المسار، وتنشئ متوالية تقدم وازدهار!