الأرقام العربيّة والهندية
قبل سنوات عديدة، كنت عضوا في اللجنة الموجّهة لتعليم الرياضيّات في المدارس الابتدائيّة. في هذا الإطار، كان لا بدّ لنا من طرح السؤال الشائك: أيّ أرقام نعلّمها للصغار، الأرقام العربيّة - 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 0، أم الأرقام الهنديّة المتداولة في بعض الوثائق حتّى يومنا هذا. اقترحت أنا، معلّم العربيّة، أن نعلّم الأرقام العربيّة مباشرة، وأوضحت موقفي:
- الأرقام العربيّة تُستخدم اليوم في كلّ أنحاء العالم، وبدخول الحاسوب إلى جميع المعاهد والمؤسّسات والمكاتب، ومعظم البيوت أيضا، طغت الأرقام العربيّة تماما.
- الصغار، مهما كانت سنّهم، يجدون في الأرقام العربيّة ألفة وودّا، إذ هم يتعرّفونها، قبل المدرسة، في المستندات الرسميّة مثل أرقام البيوت والشوارع، أرقام السيّارات، أرقام لاعبي كرة القدم وكرة السلّة، وأخيرا في الحاسوب الذي غدا في أوساط كثيرة لعبة الأطفال المفضّلة.
- في الأرقام الهنديّة، أخيرا، يشكّل الصفر "عقب أخيل" فعلا. يكفي أن "تقضي حاجتها" ذبابة على الكتاب أو الدفتر لينضاف صفر إلى العدد ! ثمّ إنّ الأرقام العربيّة تُستعمل فيها فاصلتان: النقطة لتفصل بين الصحيح والكسر: 4.25 والفاصلة العاديّة لتفصل كلّ ثلاث منازل على حدة: 25, 4. وعليه فإنّنا باستخدام الأرقام الهنديّة، نخسر أحد نوعي الفاصلة. ثمّ إنّ الأرقام العربيّة أخيرا تُنسب إلينا، لأنّنا نحن من نقلها إلى أوربا، فكانت بديلا من الأرقام الرومانيّة البدائيّة، فلماذا "نتبرّأ" من هذه المأثرة الحضاريّة التي ينسبها إلينا الآخرون؟!
تعجبون إذا عرفتم أنّ المعترض الأساسيّ كان رياضيّا عربيّا بالذات. ادّعى أنّ المحافظة على الأرقام الهنديّة فيها من المحافظة على التراث (أيّ تراث؟). هكذا اتُخذ القرار أخيرا بتعليم الصغار الأرقام الهنديّة في الصفين الأوّل والثاني، ثمّ الانتقال إلى الأرقام العربيّة اضطرارا، لأنّ التلاميذ في هذه المرحلة يبدءون تعلّم استخدام الحاسبة أيضا! ( بلغني مؤخّرا أنّ المدارس العربيّة كلّها أخذت في السنوات الأخيرة فعلا بتعليم الأرقام العربيّة من الصفّ الأوّل. أرأيتم كيف لا يصحّ إلا الصحيح ؟! ).
العالم كلّه يسمّيها الأرقام العربيّة، ويقرّ أيضا يإسهام العرب في هذا المجال بابتكار الصفر الذي كان أساسا للمبنى العشري للعدد، ونحن العرب نتبرّأ من هذه الأرقام "حفاظا على التراث". في كتاب باسم " فن الكتابة الصحيحة " ، يعرض المؤلّف، الدكتور محمود سليمان ياقوت، لمسألة الأرقام هذه، فيرى أنّه " يُستحسن الإبقاء على الأرقام الهنديّة التي عرّبها الزمان( نحو تسعة قرون)، ولن يُضيرنا استعمال هذه الأرقام ما دام الغربيّون لا يرون بأسا باستعمال أرقامنا العربيّة". يعني: واحدة بواحدة! وما الحاجة إلى الإبقاء على هذه الأرقام ؟ لأنّ " معظم المؤلّفات القديمة والحديثة، وأدباء العالم العربي، والمستشرقين يستعملون الأرقام الهنديّة التي جعلتها مئات السنين تصبح عربيّة" !
هكذا يريدون لنا أن نعيش ازدواجيّة رقميّة، بالإضافة إلى ازدواجيّاتنا الكثيرة، اللغويّة وغير اللغويّة ! فهناك اليوم دول عربيّة انتقلت تماما إلى الأرقام العربيّة، مثل العراق ودول شمال إفريقية، ودول أخرى ما زالت متشبّثة بالأرقام الهنديّة متوهّمين أنّها تراث فعلا. حتّى في الصحيفة ذاتها تجد رقم الصفحات أحيانا بالأرقام العربيّة والتواريخ بالأرقام الهنديّة. وشاهدت في الماضي أكثر من مرّة مباراة في كرة القدم المصريّة، فرأيت الأرقام العربيّة كبيرة لامعة على ظهور اللاعبين. أمّا النتيجة التي ظهرت على شاشة التلفزيون فكانت بقعة سوداء مقابل بقعة سوداء، أي: صفر مقابل صفر. عاشت الازدواجيّة !
قبل الانتهاء من مسألة الأرقام، هناك ملاحظات ثلاث يجدر بنا ذكرها هنا لصلتها بالأرقام والأعداد والرياضيّات:
- الملاحظة الأولى هي عدم الدقّّة في استعمالنا مصطلحي الرقم والعدد، وذلك لا يجوز في دروس الرياضيّات على الأقلّ. فالرقم في الرياضيّات، وله في اللغة معانٍ أخرى كثيرة، هو علامة كتابيّة تواضعنا عليها لقيمة حسابيّة: 1، 2،... حتى 9، بالإضافة إلى الصفر 0. ومن الأرقام يتشكّل العدد طبعا في مبنى عشري. فالعدد 503 يتشكّل من ثلاثة أرقام: 5 في منزلة المئات، صفر في منزلة العشرات؛ وذلك يعني أنّها منزلة خالية، 3 في منزلة الآحاد. وحين يكون العدد أقلّ من عشرة، 9 مثلا، فهو عدد يتألّف من رقم واحد. إذن هناك رقم (digit, numeral)، ومن اجتماع الأرقام يتكوّن العدد (number).
لكنّنا في العربيّة نحمّل الرقم دلالة أخرى، حين نقول رقم الهويّة، رقم السيّارة، رقم البيت، بدلا من عدد كما في الإنجليزيّة والعبريّة. فكيف رقم البيت 25 وهو مكوّن من رقمين؛ 2 وَ 5 ؟ لذلك اضررنا في كتب الحساب للأطفال المبتدئين إلى تبنّي المصطلح الأجنبي نُمرة / نُمر، في الإشارة إلى أرقام البيوت وما شابه، منعا للالتباس. وهذان المصطلحان، نمرة / نمر، شائعان في الحديث بالمحكيّة، وفي معاجم اللغة الحديثة، فاستعملناهما للخروج من المأزق المذكور في تعليم الصغار، إلا أنّ المشكلة المذكورة تظلّ مشكلة !
- الملاحظة الثانية حول العدد 100. فهو يُكتب غالبا مائة، بزيادة ألف تُكتب ولا تُقرأ، والجمع مئات، ومئون(!)، تسقط فيهما الألف كما نرى. والسؤال هو: لماذا الإبقاء على هذه الألف الثقيلة المتطفّلة، ونحن نعلم أنّ الكتابة الثانية، مئة، جائزة أيضا، وقد وردت في المراجع القديمة. هل هو "الحفاظ على التراث" مرّة أخرى، أم الرغبة في تخطئة العباد ؟ بأذنيّ هاتين سمعت المذيعين في القاهرة غير مرّة يقولون: سنة ألف وتسعماية... بلفظ الألف ومدّها. بل إنّ أحد الشعراء المعروفين وقع أيضا في هذا الخطأ بلفظ الألف، وذلك ما يكشفه الوزن في الشعر، كما تعلمون. المفرد مئة، والجمع مئات، ومضاعفاتها: مئتان / مئتين، ثلاث مئة، أربع مئة، خمس مئة، ستّ مئة، سبع مئة، ثماني مئة، تسع مئة. دونما توصيل اللفظين، أو حذف أحد حروفهما أيضا. وكفى الله المؤمنين شرّ الأخطاء الإملائيّة أو القرائيّة !
- ذكرنا آنفا أنّ الأرقام العربيّة تمكّننا من استخدام فاصلتين، واحدة بين الصحيح والكسر العشري: 4.5، والأخرى بعد كلّ ثلاثة أرقام تسهيلا للقراءة وتوضيحا للمنازل: 642,015. ويُلاحظ في الفترة الأخيرة أنّ كتّابا كثيرين، في مختلف المجالات، أخذوا يستخدمون في التبنيد (التقسيم إلى بنود وبنود ثانويّة وبنود ثالثيّة... الخ) المبنى العشري للأعداد في سبيل التخلّص من الأرقام، ثمّ أحرف الهجاء، ثمّ الأرقام الخ. بعض هؤلاء الباحثين آثر الإبقاء على الأرقام الهنديّة، وبذلك استغنى مضطرّا عن فاصلة الكسر، وعمد إلى فاصلة المنازل، "حفاظا على التقاليد" ! لكنّ كثيرين منهم وقعوا في خطأ آخر حين جعلوا البند الأكبر إلى اليمين والبند الفرعي إلى الشمال، ظنّا منهم أنّ هذا الترتيب محكوم بالاتّجاه في القراءة العربيّة من اليمين إلى الشمال. لكنّه خطأ طبعا، لأنّ العدد يُقرأ من الشمال إلى اليمين، والمنزلة اليسرى دائما أكبر قيمة من المنزلة التي تليها من اليمين! لتوضيح المسألة نورد مثالا، فما يبدو صعبا في التعريف النظري تذلّله الأمثلة غالبا: إذا أردنا أن نكتب البند الخامس من الفصل الثالث، نكتب بالأرقام العربيّة 3.5 ، وبالأرقام الهنديّة نضع فاصلة بدل النقطة ----، لأنّ الفصل هو الأكبر فيُكتب إلى اليسار ، والبند فرع فيُكتب إلى اليمين. تماما مثل كتابة ثلاثة وخمسة أعشار بالأرقام. على كلّ حال هي طريقة مريحة وتتّسع لشتّى أنواع التبنيد والتفريع، ومن هنا الإقبال عليها في الأبحاث العلميّة الدقيقة !