سقوط الإمبراطور الواهـــــم
كان الرئيس التركي طيّب رجب أردوغان محلّ انتقاد ٍ شديد في الآونة الأخيرة لعدم رغبته أو استعداده في الهبّ لمساعدة الأكراد السوريين المحاصرين في مدينة عين العرب (كوباني) الواقعة مباشرة ً على الحدود التركية – السوريّة. ومم يؤسف له أنّ تصرّف أردوغان لا يدعو للإستغراب حيث أنه كان دائما ً يسعى وراء سياسات تتناغم مع الصورة التي رسمها لنفسه، وهي صورة قائد عظيم، ولبلده على أنها قوّة إقليميّة مهيمنة، لا بل قوّة عالميّة.
ما يُحسب لرصيده الإيجابي أن أردوغان خدم بلده بامتياز وبالأخصّ خلال فترة رئاسته الأولى والثانية لمجلس الوزراء التركي. لقد وضع تركيا على الخارطة كبلد تقدّمي ومزدهر، بلد حقّق توازنا ً سليما ً ما بين الدّين والديمقراطيّة، وقد نال بذلك إعجاب الأصدقاء وحسد الأعداء واعترف بتركيا كقوّة إقليميّة رئيسيّة.
ومنذ تولّيه السلطة في عام 2002 انحصرت إنجازاته على أية حال على ثلاثة مجالات سيطرت على مساره السياسي: أ) اعتباراته المشوّهة عن الإمبراطوريّة العثمانيّة ورؤيته "لعظمة" تركيا المستقبليّة، ب) حماسه الديني ودعمه للإسلاميين، و ج) عطشه الذي لا يرتوي للسلطة محليّا ً وإقليميّا ً ودوليّا ً.
لم يفوّت أردوغان أبدا ً فرصة عليه لكي يبيّن للعالم ما توصّلت إليه الجمهوريّة التركية "الجديدة" كخليفة للإمبراطوريّة العثمانيّة وكيف زادت أهميتها بفضل موقعها الجيو-إستراتيجي ونموّها الإقتصادي ومكانتها كمركز للطاقة وقوّة عسكريّة مهيبة لا تُضاهى في المنطقة.
لم ينزعج أردوغان حتّى الآن بحقيقة أن تركيا اليوم ليست الإمبراطوريّة العثمانيّة وأنّ العثمانيين لم يعودوا محط إعجاب من قبل الشعوب التي كانت تحت حكمهم كما يريد أردوغان أن يعتقد.
لقد صرّح أردوغان منذ فترة ٍ قريبة في شهر سبتمبر (أيلول) 2014 بقوله:"لقد كان لدى الدولة العثمانيّة نظاما ً إداريّا ً ناجحا ً جدّا ً، وهذه المناطق التي تعاني الآن من أزمات حافظت على مدى قرون على وجودها بدون مشاكل. فالقضيّة الفلسطينيّة والمشاكل في العراق وسوريا وشبه جزيرة القرم والبلقان، هذه كلها قضايا برزت بعد انحلال الإمبراطوريّة العثمانيّة".
ومن المفارقات يبدو أنّ زهو أردوغان حول عدم وجود مشاكل خلال الحقبة العثمانيّة أفلت من عقيدته القائلة:"صفر مشاكل مع الجيران" حيث أنّ لتركيا في الوقت الحاضر مشاكل مع كلّ بلد ٍ مجاور تقريبا ً، وهي بذلك في تباين شديد لما صرّح به رئيس الوزراء الحالي دافوتوغلو عاكسا ً وجهة نظر رئيسه بقوله:"تريد تركيا أن تندمج مع جيرانها...أن يكون لها حزام استقرار وأمان وازدهار في المناطق المحيطة بها" وتسعى في نفس الوقت أن تصبح عضوا ً في الإتحاد الأوروبي.
لقد قلّصت في الواقع سياسة أردوغان المحليّة أمل تركيا في أن تصبح عضوا ً في الإتحاد الأوروبي لأن العديد من الدول الأوروبيّة الأعضاء في الإتحاد الأوروبي لا يريدون دمج دولة إسلامية بعدد كبير من السكان قد يعطيها دوراً قيادياً في "نادي مسيحي".
والأهم من ذلك، لقد أثار الاتحاد الأوروبي مخاوف حول تدخل الحكومة التركية بالقضاء والقيود التي فرضت على الصحافة و"الاستعمال المفرط للقوة الذي يبقى أمراً مقلقاً".
وفي صحوة الربيع العربي اعتقد أردوغان بأن الوقت قد حان لأن تعرض تركيا نفسها كزعيمة العالم العربي السيء واعتقد بأن تركيا قد تقدّم نموذجاً ناجحاً للديمقراطية والدين.
وعلى أية حال، فقد صُدّ أردوغان من قبل الدول العربية حيث أن العرب في جميع أرجاء الشرق الأوسط يعيدون إلى الذهن حكم الإمبراطورية العثمانية وليس لديهم الرغبة لمشاهدة تركيا تستعيد قوة الامبراطورية العثمانية التي قد تهيمن على المنطقة.
لقد وتّرت حماقات أردوغان بشدة علاقات تركيا مع الولايات المتحدة وذلك بالرجوع إلى حرب العراق عام 2003. وقد صدّت تركيا في الآونة الأخيرة طلب الولايات المتحدةلاستخدامها قاعدتها الجوية الواقعة بالقرب من الحدود السورية لنجدة الأكراد المحاصرين في مدينة عين العرب (كوباني).
لقد انتقدت الولايات المتحدة بشكل مكشوف سياسة حدود تركيا المفتوحة و"طريق الجهاديين العام" التي نشأت عن ذلك حيث أن الحكومة التركية لم تفعل سوى القليل لإيقاف تدفق المقاتلين الملتحقين بِ"داعش".
ويدور في الوقت الحاضر نقاش مكثف في إدارة أوباما حول جدوى تركيا كحليف وأهميته كعضو في حلف الشمال الأطلسي (الناتو) ومدى تعاون الولايات المتحدة استراتيجياً وإشراكها الاستخبارات مع تركيا.
وكجزء من طموح أردوغان لترسيخ سلطته المحلية والإقليمية، فقد شرع في حملة منهجية لأسلمة الدولة، جاعلاً من تركيا بشكلٍ هجومي دولة أشدّ إسلامية في حين أن يدعم علناً مجموعات إسلامية مثل حماس والإخوان المسلمين.
يشك العديد بأنه يدعم في الواقع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا "داعش" الأمر الذي يفسّر رفضه الانضمام للتحالف الأمريكي ضد تنظيم "داعش" ولو تحت حجة أن حزب العمال الكردستاني والأكراد السوريين هم نفس الشعب.
لقد جعل أردوغان من المعتقدات الإسلامية قضية مركزية للتعيينات السياسية والعسكرية رفيعة المستوى. ولمزيد من تعزيز صبغة النظام التعليمي بالإسلام، فقد حوّل أكثر من 800 شخص من مديرية الشؤون الدينية إلى وزارة التعليم.
لقد أثار أردوغان الغضب عندما شبه الإجهاض بجريمة القتل، ودفع للسماح بالمزيد من المدارس الدينية لكي تخلق "جيلاً ورعاً" جديداً وألغى الحظر المفروض على أغطية الرأس (الحجاب) ووضع قانون مثير للجدل محل التنفيذ يحرّم بيع الكحول أثناء الليل.
ضاعف أردوغان عدد المدارس التي تدرّس وتدرّب رجال الدين الإسلاميين سنيّي المذهب وأمر القوات العسكرية إدخال "التعليم الأساسي الديني". أضف إلى ذلك، فقد زاد عدد الجوامع بأكثر من 7.000 جامع خلال فترة رئاسته.
وذهب إستحواذ أردوغان بالإسلام لدرجة أن يطالب بأن يعود "تاريخ العقود ما بين أمريكا اللاتينية والإسلام للقرن الثاني عشر"، الأمر الذي ليس له مرجع تاريخي. أمّا ادعاؤه بأن "البحارة المسلمين وصلوا أمريكا في عام 1178" هو أمر سخيف كادعاؤه الغير الذي لا أساس له من الصحّة بأن "كولومبوس ذكر وجود مسجد على تلّة على الشاطىء الكوبي".
ولترسيخ سلطته، فقد أدرك أردوغان بأن الإقتصاد القوي هو مفتاح لمنع قيام معارضة محليّة ضدّ إجراءاته الإجتماعيّة والسياسيّة الغير محبوبة على نطاق ٍ واسع.
وفي صيف عام 2013 قمع أردوغان متظاهرين سلميين في منتزه جيزي واعتقل عشرات الصحافيين الذين لا يزالون يقبعون في السجون. وبالرجوع إلى لجنة حماية الصحافيين فإن عدد الصحافيين الذين يقبعون في السجون في تركيا أكثر من عددهم في الصين أو إيران.
أمر أردوغان الإستخبارات المحليّة بأن تتجسّس على الناس العاديين ومرّر قانونا ً جديدا ً يفوّض السلطة لوكالة الإستخبارات لجمع بيانات شخصيّة خاصّة دون الحاجة لأمر قضائي.
بعد توجيه اتهامات بالفساد في جهاز الدولة، قام أردوغان بإقالة عدّة آلاف من ضباط الشرطة والمسؤولين العدليين متهما ً منافسيه بالتآمر ضدّه. وفي عام 2013 قام بإضعاف الجيش بعزل ضباط كبار ووضعهم تحت الإقامة الجبريّة متهما ً إياهم بالتآمر للإطاحة بالحكومة ذات الإتجاه الإسلامي بقيادة حزب العدالة والتنمية.
وفوق ذلك كلّه، فإنّ تقاعسه غير المعقول وفاقد الضمير لمنع ذبح الأكراد في عين العرب (كوباني) لا يدلّ إلاّ على مصلحة ذاتية وتدهور أخلاقي.
وللأسف لا يفهم أردوغان بأن الأوقات قد تغيّرت. لقد بعثر فرصة تاريخيّة ليجعل من تركيا نموذجا ً لديمقراطيّة إسلاميّة مع إنجازات اقتصاديّة وسياسيّة تثير الإعجاب.
حلمه أن يرأس كالإمبراطور دولة قويّة بامتداد دولي كما كانت يوما ً ما الإمبراطوريّة العثمانيّة، هذا وهم وخداع تماما ً كرغبته في أن يكون رئيسا ً للدولة في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية في عام 2013.
لتركيا القدرة على أن تصبح قوّة عالميّة ذات شأن، ولكن لتحقيق ذلك، على أردوغان تغيير المسار أو ترك الحلبة السياسيّة. ولكن غطرسته وورعه المزيّف سيمنعانه من القيام بأي من الأمرين وحرمان تركيا من الموقع الذي تستحقه للعب دور بناء على الساحة الدوليّة.
أ.د. ألون بن مئيـــــــــــــــــــر
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدوليـــــــــــــــــة