شاهد لم يفهم شيئًا
حين غادرت القاهرة كانت وسائل الإعلام تتحدث عن بيانات دعت إلى ثورة الشباب المسلم ومعركة الهوية التي سترفع المصاحف. واستوقفني ما تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي بخصوص التوجيه الثوري الأول بخصوص مشاركة النساء في الثورة المذكورة. وفهمت أن ذلك كله صدر في بيانات باسم الجبهة السلفية. وقد بذلت جهدا لكي أعرف عنها شيئا حتى فهمت أنها تضم مجموعة من السلفيين المهتمين بالشأن العام، الذين يلتفون حول بعض القيادات السلفية. ولكنهم لا يشكلون كيانا تنظيميا واحدا.
لم أفهم الهدف من دعوتهم التي لم آخذها على محمل الجد. ومن ثم اعتبرت نداءاتهم من قبيل الفرقعات التي يصدرها نفر من النشطاء المتحمسين، الذين يتبنون بعض القضايا الوهمية ويقاتلون من أجلها. فضلا عن أنني اعتبرت الدعوة بمثابة محاولة لشق الصف الوطني تقوم على الفرز الديني، الأمر الذي من شأنه تحويل الصراع السياسي إلى صراع أيديولوجي. كما أنني استغربت عنوان معركة الهوية لأنني أزعم أن هوية المصريين ليست مهددة. وإنما ضمائر قطاعات من المصريين هي التي تشوهت.
بسبب ذلك فإنني لم أهتم كثيرا بالموضوع. إدراكا مني أن البلد فيه ما هو أهم وأجدى، فضلا عن أننا أحوج ما نكون إلى تعزيز احتشاد الصوت الوطني للدفاع عن قيم الثورة وتطلعاتها. في حين أن بيانات الجبهة السلفية تخدم الاستقطاب النكد الذي صار وباء فشلت جهود مكافحته خلال الثمانية عشر شهرا التي مضت.
شاءت المقادير أن يجلس إلى جواري في الطائرة أحد رجال الأعمال الذي كان ضمن وفد متجه إلى بانكوك عاصمة تايلاند لترتيب أمر استيراد بعض السلع الكهربائية اليابانية التي تصنع هناك. ما إن تعارفنا حتى شكا الرجل على الفور من الكساد المخيم على السوق والأعباء التي أصبحوا يتحملونها من جراء عدم الاستقرار والانفلات الأمني. ذلك أن البيع متوقف في الوقت الذي أصبح التجار يتحملون عبء التعاقد مع الشركات الأمنية الخاصة لحماية المكاتب والمخازن طول الوقت. ومن ثم فإنهم أصبحوا يستنزفون ماليا في الوقت الذي توقفت فيه حركة البيع.
كل من لقيته بعد ذلك كان يسألني عما سيحدث في مصر يوم 28 نوفمبر ولفت انتباهي البعض إلى ما تبثه وسائل الإعلام المصرية بخصوص الإجراءات والتحضيرات التي تم اتخاذها لمواجهة ثورة الشباب المسلم. وحين تابعت ما تنشره الصحف المصرية في هذا الصدد انتابني شعور هو خليط من الدهشة والخوف. إذ أدركت أن الموضوع الذي لم أكترث به ولم آخذه على محمل الجد تحول في الإعلام المصري إلى إعصار جارف وخطر داهم يهدد البلد بكل ما فيه. وأكثر ما أثار انتباهي تلك العناوين التي تحدثت عن إجراءات تأمين المرافق الحيوية والمشروعات الكبرى من السد العالي وخزان أسوان إلى قناة السويس، مرورا بالبنك المركزي ومحطات الكهرباء ومبنى التليفزيون وغيره من مؤسسات الدولة.
لاحظت أيضا أن الصحف دأبت على نشر التقارير المتعلقة بانتشار المجموعات القتالية من وحدات المظلات والصاعقة في بعض المناطق الحساسة.
وإلى جانب تلك التقارير نشرت الصحف سيلا من الصور المكبرة لسرب المدرعات والعربات المصفحة التي استعدت للمواجهة المنتظرة. إضافة إلى أرتال عناصر القوات الخاصة المزودة بالكمامات وبالأسلحة الحديثة التي توزعت على مختلف المواقع الحيوية. وقرأت أن قوات الأمن ستتصدى للمتظاهرين بالأسلحة الثقيلة التي تصورت أنها معدة لخوض المواجهات العسكرية الكبرى. وتعددت العناوين التي حذرت المتظاهرين من إقدام الداخلية على «الضرب في المليان». حتى قال أحد مسؤولي الداخلية الكبار إن الأجهزة الأمنية سترد على الرصاص بألف طلقة.
لك أن تتصور شعور المصري حين يصدم بقراءة هذه العناوين وهو في الخارج، في حين يجد نفسه عاجزا عن فهم ما وراءها أو عن تبين حجم الحقيقة أو المبالغة فيها. لكن الذي لا يمكن إنكاره أن الأداء الإعلامي المصري هيأ الأذهان لمواجهة كبرى تهدد النظام والمجتمع والعمران أيضا.
لم أجد تفسيرا لذلك التصعيد في لغة الخطاب الإعلامي. ولم أتخيل أن الجبهة السلفية بمكن أن تثير الفوضى في البلد إلى ذلك الحد. كما أنني لم أتفهم ولم أقتنع بموقف الإخوان الذي بدا ملتبسا ومتناقضا. أما أكثر ما فاجأني فقد كان غياب السياسة تماما عن المشهد. ذلك أن لغة الخطاب استخدمت مفردات القاموس الأمني من الصاعقة والمظلات والقوات الخاصة والضرب في المليان والاعتقالات الاستباقية ولم يرد في السياق أي حديث يشير إلى السياسة من قريب أو بعيد.
المفاجأة الكبرى وقعت حين مر اليوم ولم يحدث الانفجار الذي عُبِّئ المجتمع لانتظاره.
وكان ذلك لغزا آخر عصيا عن الفهم، ويثير أسئلة عدة حول الهدف من التصعيد وتفسير الفشل في التنبؤ، بقدر ما يثير أسئلة حول تكلفة هذه المغامرة الوهمية والعبء الذي تحملته الدولة التي استنفرت كل مؤسساتها لأجل مواجهتها. لقد عدت بقائمة من الأسئلة الحائرة التي لا إجابة عليها، ومن ثم اعتبرت نفسي شاهدا لم يفهم شيئا. من الفعل ولا رد الفعل، حتى صرت أشك في أن وراء الاثنين سرا لم يعلن عنه.
السبيل 2014-11-30