عمى البصيرة
بيوت الناس، تعلمك الكثير، اضعاف ما تتعلمه هنا وهناك، في هذه الحياة، وهذه البيوت بكل حكاياتها، تذوق فيها وعبرها الحلو والمر في حياتك.
ذات مرة دخلنا الى بيت تعيش فيه عائلة فقيرة جدا، والاب مسكين ومريض، وشخصيته غريبة الى حد ما، وواحد يرافقنا، امضى الطريق، بعد ان خرجنا من ذاك البيت وهو يسخر من الاب بشدة، لم يترك فيه كلمة، ولا حركة، الا واستهزأ بها، وكل هذا لان الرجل لم يعجبه، استصغر قدره، واحتقره، اهانه لانه لا يبدو كما يريد، مقسما بالله ان هذه حالة سوف تفشل تماما عند نشرها، وان لا احد سوف يساعد العائلة.
يومان فقط، مرا على نشر الحكاية، واذ برئيس وزراء في موقعه يتصل ويقول ان الحكومة قررت بناء بيت للرجل وعائلته، بعد ان تم التأكد من صدقية المعلومات، ولان الله يعرف، والناس، لا تعرف، جرى الموضوع بسرعة هائلة، اذ تم بناء طابق كامل للرجل وعائلته، فوق بيت اهله، الذين يعيشون ظرفا قاسيا ايضا، وانتقل الفقير خلال شهور الى بيته الجديد، وكلما ارى صاحبنا ذاك اقول له الرد على سخريته كان سريعا جدا.
صديقنا استصغر قدر الرجل، واستهزأ به لفقره وطريقة كلامه ولباسه، وعمى البصيرة باستصغار اقدار الناس، تراه في كل مكان، فيما اقدار الناس عند الله مختلفة.
ذات مرة اقنعني رجل من جرش بعد ان يأس مني تماما، بأن اذهب لزيارة مغارة وسط الغابات تسكن فيها عائلة كاملة، شبابها بلا وظائف، ويعيشون حياة بدائية، والقصة في ظاهرها مثيرة، لكنها ايضا، غير مقنعة في بعض مشاهدها، لاننا لا نصدق ان هناك من يرضى ان يعيش في مغارة، وذهبنا يومها لتلك المغارة، والمشهد كان محزنا جدا، لكنني كتبتها وانا غير مقتنع تماما، فلماذا لا يعمل ابناء الرجل، برغم انهم غير متعلمين وغير مؤهلين؟!.
ايام فقط بعد نشر الحكاية حتى حصلت العائلة على بيت وتم بناء البيت في قطعة ارض، فوق تجنيد الشباب الاربعة في الجيش والامن، ولحظتها تطرق بيدك عمى البصيرة، لان تقديرك لم يكن دقيقا، وفي تقديري كان التجاوب سيكون محدودا جدا، غير ان الذي جرى كان العكس تماما، اذ حصلوا على ما لا يتوقعون، وما لا اتوقع ايضا.
هي ذات فكرة اساءة تقدير الموقف، او تقدير الناس، فالاستعجال والحكم بشكل سطحي، واطلاق الاحكام، ومنازعة الله، في تقديراته، خطأ يقع فيه اغلب البشر.
مرة وبعد الحاح شديد وما اعتبرته ازعاجا يومها، كتبت عن مريضة سودانية، تعالج في مركز طبي معروف في الاردن، ووالدها جاء الي مستغيثا حتى نساعده، لان فواتير المستشفى لم يتم دفعها كاملة وهناك اكثر من ثمانية الاف دينار، بحاجة الى دفع، وتم حجز جوازات السفر، والعائلة بلا مال حتى تنفق، وقد نشرت القصة يومها، وفي تقديري ان الطفلة السودانية لن يساعدها احد، لان الاولويات من المتبرعين تنصب على ابناء البلد.
مثل مرات كثيرة، تقول لك السماء، ان تقديرك خطأ، الف مكالمة ربما يوم النشر،حطت على رأسي والكل يريد ان يساعد، والبعض ذهب للمستشفى ليدفع الحساب او بعضه، وامير عربي يقرأ القصة بالصدفة في سفره على الطائرة، ويتدخل ايضا، وآخرون يتصلون بالأب ويدفعون له نقدا لإعانته، فيحرر جوازات السفر، ويشتري تذاكره، ويدفع فاتورة المستشفى ويعود الى بلاده.
تعلمك بيوت الناس عبرا كثيرة، اقلها ان تلزم حدك وحدودك كمخلوق، وان تسعى في حياتك، لاجل نفسك او غيرك، وتترك الامر لله فقط، في البدء والخاتمة، فيما «التشاطر الزائد» في الحياة، غالبا ما تكون نتائجه سلبية عليك، او على غيرك.
فقدان البصر، اهون بكثير من عمى البصيرة، او ضعفها.
الدستور 2014-12-05