الخصوصيات ليست شعوبية

تسلح عرب الجزيرة العربية بالإسلام، وفتحوا به بلدانا عديدة وواسعة من أمم وقوميات أخرى كان لبعضها تقاليد وحضارات عظيمة.
وكان من الطبيعي أن تقوم الشعوب والأمم المغلوبة التي فضلت الإسلام على دفع الجزية باستيعاب الدين الجديد ودمجه في حياتها الجديدة، وفق موروثها وتقاليدها الثقافية وخصوصياتها الاجتماعية والتراثية المحلية والقومية.
فهذا هو منطق الأشياء والعدالة، واحترام هذه الأمم والشعوب ووجدانها وروحها الجمعية، فضلا عن أن الإسلام نفسه كان مرنا وديمقراطيا بحيث اتسع لهذه الخصوصيات، والا ما كان دينا لرب العالمين وفي أربع جهات الأرض.
بيد أن الجماعات المتطرفة داخل الدولة الإسلامية لم تفهم هذه الخصوصيات، ولم تترك أية هوامش أو مساحات رحبة لثقافة الأمم والشعوب المغلوبة، ونظرت لهذه الخصوصيات ولكل تأويل ثقافي محلي أو قومي، نظرة الشك والارتياب، واعتبرته خروجا على الدين، واشتقت توصيفات معادية لها كان من أبرزها ما بات يعرف بالشعوبية إلى آخر القاموس عن المعجم والموالي والفرس والمجوس.
وصارت طبعات "أهل المدينة" والمرحلة الأموية من الإسلام ماركة خاصة وعلاقة تجارية للجودة المطلوبة، وما عداها ودونها ماركات من الدرجة الثانية أو مغشوشة أو طبعات مستوردة ترقى إلى مستوى الكفر والكفار، وفلق الهامات وضرب الرقاب وهتك الأعراض وتحويل الحرائر من خارج الأصول اليثربية والأموية إلى سبايا وجواري ومحظيات.
وفي الحقيقة لم تقتصر هذه السياسة على الأمم الأخرى من غير العرب، بل على جماعات عربية أصيلة، بل من العرب العاربة مقابل العرب المستعربة في الجزيرة العربية.
فالعديد من القبائل العربية التي تعود أصولها إلى اليمن "أهل العرب العاربة"، وكانت مسيحية وتعيش بين شمال العراق "نينوى" وشمال سورية "الساحل والجبل"، وجدت نفسها أقرب إلى الإسلام كروح للعرب وللعروبة، وأعلنت إسلامها طوعا، وصارت ثغرا من ثغور الإسلام والأمة ضد الخطر البيزنطي، لكنها أسلمت على طريقتها وفق تقاليدها وخصوصياتها الثقافية.
فقد جمع بعضها شيئا من الرواسب المسيحية في الدين الجديد، ولم يكن ذلك لإقامة باطنيات دينية داخل الإسلام، بل تعبيرا عن حالة موضوعية، وكان بإمكانها أن تظل مسيحية كما كان أقل خطرا عليها التعايش مع بيزنطة بدل الدخول في معارك معها.
ولنا أن نعكس شيئا من ذلك على دخول الفرس في الإسلام وهم أصحاب حضارة معروفة أسهمت لاحقا في حمل الإسلام وتطوير رسالته ومده بعشرات العلماء في الحقول المختلفة، مما حدا ببعض المغرضين من المستشرقين إلى نسب كل الإنجازات العلمية والفكرية في التاريخ الإسلامي إلى الفرس.
وقد كان بإمكان الفرس والشعوب الإيرانية الاحتفاظ بدياناتهم على غرار أهل الهند ودفع الجزية بدلا عن ذلك.
واذا اختاروا مذهبا معروفا قابلا للنقاش مثل أي مذهب فلا يجوز أن نتعامل مع ذلك بوصفه عملا باطنيا أو شعوبيا لهدم الإسلام من الداخل، فضلا عن أن ما يبدو صراعا مذهبيا هو في الحقيقة غطاء من كل الأطراف لصراعات سياسية بالدرجة الأولى.
وقد يعرف أو لا يعرف المهووسون بالمؤامرات "الباطنية" أن المسيحية ما إن دخلت أوروبا حتى اخذت خصوصيات الشعوب التي تبنتها ودخلت في انقسامات حادة، ولم يكن ذلك ناجما عن رغبة أية جماعة بتحطيم المسيحية من الداخل.
ولا يتسع المجال هنا للحديث عن المقاربات الفلسفية عند شبنغلر وادوارد سعيد حول ما يعرف بالتشاكل الثقافي، وقريبا منه يعرف بالتناص في الحقل الأدبي.
العرب اليوم 2014-12-21