محنة أصحاب السوابق
يوجد أكثر من نظرية تحاول تفسير الجريمة، يدرسها الطلبة في كليات علم النفس والاجتماع والحقوق في الجامعات؛ منها النظرية البيولوجية أو الفطرية التي تنسب الجريمة إلى بنية الجسم وتصميمه، ووضعها لومبروزو (1835-1902)، لكن أثبت العلم وأثبتت الوقائع عدم صحتها. إذ لو كانت صحيحة، لكان المجرمون غير مسؤولين عن جرائمهم، ولا أمكن إصلاح أحد منهم، ولمنعوا من الزواج.
ومنها أيضا النظرية التي تنسب الجريمة إلى بنية المجتمع؛ والنظرية التي تعتبر الجريمة نتاجاً لمشكلة نفسية يمكن التعرف عليها بالاستبانات والمقاييس النفسية؛ كما نظرية الثواب والعقاب أو النظرية السلوكية (سكنر). ومنها كذلك نظرية الوصم أو الدمغة (Labeling) التي نحن بصددها، لما لها من تأثير بالغ علينا جميعاً، في الأسرة والمدرسة والعمل والمجتمع.
يميز هوارد س. بيكر -صاحب النظرية- بين الانحراف الأولي أو العرضي للفرد الملتزم -عموماً- بقيم المجتمع ووسائله المشروعة، والانحراف الثانوي الذي يُعرف عنه، فيوصم صاحبه أو يُدمغ بـ"المنحرف" أو "المجرم"، أو "خريج الحبوس"، أو صاحب السوابق (السابق في القانون هي الجريمة).
ومع أن نظرية الوصم لا تبحث في عوامل الانحراف، إلا أنها تفسر تكرار بعض أفراد المجتمع للجريمة؛ أي أنها تصف ما يحدث للموصوم أو المدموغ الذي لا يقتصر عقابه على القانون فقط، بل يشمل المجتمع أيضاً بالوصم أو الدمغ (صاحب سوابق مثلاً) حتى بعد تنفيذ العقوبة.
بهذه الوصمة أو الدمغة التي تلصق بهم، تزداد عزلة أصحاب السوابق الاجتماعية بابتعاد الناس عنهم ونبذهم، وأحياناً من أقرب الناس إليهم. فقد تهجرهم الأسرة، أو يجدون صعوبة في الزواج أو في تكوين الأصدقاء، كما في العثور على عمل كريم يكسبون به رزقهم ويتخلون به عن الجريمة.
بهذا الحرمان أو الحصار الاجتماعي والحياتي، يضطرون إلى البحث عن الموصومين أمثالهم لإقامة علاقات معهم والعودة إلى الانحراف والجريمة. وفي كل مرة يعودون فيها إلى السجن، يلتقون بأمثالهم ويتعلمون الجديد في الجريمة منهم، أو يعلمونهم وسائل وأساليب وتقنيات جرمية جديدة، ما يزيد في قدراتهم ويطور مهاراتهم وكفاءتهم الإجرامية. وقد يتفقون على تأسيس شبكات وعصابات إجرامية أو مافيات إجرامية (الجريمة المنظمة)، تُغرق المجتمع والأمن العام والقضاء في دائرة جهنمية، لأنه ما إن تقع جريمة حتى يسارع الأمن العام إلى اتهام "أصحاب السوابق" والتقاطهم.
وتميز نظرية "المزاملة المتباينة" (Differential Association)، لإدوين هذرلاند، بين المجرمين المبتدئين أو الأوليين، وبين عتاة المجرمين. وهي تفسر تحول كثير من المبتدئين إلى مجرمين دائمين نتيجة وضعهم في سجن واحد واختلاطهم فيه. وبذلك، تتحول مراكز الإصلاح والتأهيل والسجون إلى مراكز أو مدارس لتخريج المجرمين، نتيجة الشراكة أو المزاملة الإجبارية، ولكن المتباينة بين المبتدئين والعتاة.
وتذكرنا هذه النظرية بما نعرفه عن التنشئة الاجتماعية، وكيف يُشكل بها الطفل؛ بدءاً من عادات الأكل والشرب.. وانتهاء بالزي واللباس.
ولما كان الأمر كذلك، فإنه يجب فصل المبتدئين في الإجرام عن عتاة المجرمين في المراكز والسجون. كما يفيد إعطاء شهادة حسن سلوك للمبتدئ الذي نفذ العقوبة ولم يعد إليها، ليقلع عن الجريمة ويندمج في المجتمع ويعيش بكرامة.
أخيراً، هل يستطيع الموصوم أو المدموغ بالجريمة (من أصحاب السوابق) التخلص من الوصمة أو الدمغة السلبية؟ كيف؟ قد يلجأ بعضهم إلى التدين ظاهرياً، زياً وطقوساً، أو إلى ارتكاب جريمة كبرى تحكم عليه بالمؤبد أو بالإعدام. كما قد يلجأ البعض إلى الانتحار، أو إلى الانضمام إلى جماعة إرهابية، أو من يغسل دماغه من وسخها.
إن وصمة "أصحاب السوابق" وصمة مدمرة، لا يليق بأجهزة الأمن والمجتمع تبنيها، لأنها في النهاية تدين الجميع بالعجز عن منع أبنائنا وبناتنا من تكرار ارتكاب الجرائم؛ فالمجرمون لا يولدون وإنما يصنعون.
الغد 2014-12-29