مواجهة الصهيونية "تصالحيا" أم صداميا؟

كان وما يزال الشغل الشاغل للحركة الصهيونية، كيفية "التخلص" من "عقبة" فلسطينيي 48، في إطار السعي إلى استكمال المشروع المسمى إسرائيل، وضمانه لعقود أطول. فبعد فشل مخطط اقتلاع وطرد البقية الباقية من الشعب الفلسطيني، حاولت الصهيونية فرض مشاريع التدجين، ودفن الهوية الفلسطينية، لكنها أيضا لم تسجل "نجاحا". فأطلت علينا في السنوات الأخيرة بـ"معاهد" و"جمعيات" تنسج كلاما معسولا عن "المساواة"، لكن رسالتها المبطنة هي بمثابة دعوة إلى "المصالحة" مع الصهيونية، ونزع النضال من أجل المساواة في الحقوق عن سياق القضية القومية الفلسطينية الأساس.
ونرى في مجتمع فلسطينيي 48 الكثير من الجمعيات المتخصصة؛ الحقوقية والنسوية والاجتماعية وغيرها، التي لها مساهمات جدية في الأبحاث ووضع التصورات المستقبلية. لكن بين هذه الجمعيات عدد محدود له ذيول تصل إلى جهات صهيونية غير مباشرة؛ كأن يكون ممولها الأساس ثريا يهوديا يرسل أمواله من موطنه وراء المحيطات، أو مؤسسات يتبين بعد بحث دقيق أن ذيولها تصل إلى الصهيونية.
وحتى الآن، تحاول هذه "الجمعيات" و"المعاهد" العمل على "نار هادئة"، كأن تطل على مجتمع فلسطينيي 48 من خلال أكاديميين، يهودا وحتى عربا، بحجة الانتفاض على الوضع القائم داخل هذا المجتمع. وكأنّ الجمود أو التراجع الحاصل في أوضاعهم، ناجم عن ممارسة "غير ناجعة"، لا بل و"سيئة"، وليس العنصرية الإسرائيلية.
بكلام آخر، فإن هذه الأوكار الصهيونية، المغلفة بأسماء لامعة، تتهم الضحية ببؤسها، ودعوتها المبطنة هي: "تعالوا نتصالح مع الصهيونية"، بثمن التخلي عن الانخراط في نضال الشعب الفلسطيني من أجل تحرره ودولته المستقلة، وعدم اتهام الصهيونية حتى بسياسة التمييز العنصري، "لأن عدم المساواة ناجم عن خلل سلطوي، لا يقصد العرب"، حسب تلك الرسائل. ولا تكتفي هذه "المعاهد" ببث رسائل، بل تعمل على تدجين مجموعات شبابية تارة، وشراء أقلام تارة أخرى؛ فالمال وفير، وسوق بيع الضمير تشهد تنزيلات "موسم مرحلة البؤس" التي نعيشها.
وكل الدلائل والسياق التاريخي لظهور هذه الأوكار الصهيونية، يؤكدان ارتباطها بالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وبمعاهد تخطيط استراتيجي عليا في الحركة الصهيونية. فالمرتبطون بها، مثلا، هم أكثر من يهاجم أحزاب فلسطينيي 48، ويستهدفون السياسيين البارزين فيها. وهذا بالذات استكمال للمقولة الغادرة التي ظهرت في نهاية سنوات التسعينيات: "ماذا عمل لنا النواب العرب؟". وكان أول مطلقي هذه المقولة عضو الكنيست الأسبق عن حزب الليكود، غدعون عيزرا، والذي كان نائبا لرئيس المخابرات العامة، وقيل إنه كان مسؤولا عن تعذيب الأسرى العرب والفلسطينيين. وهذه المقولة وجدت من يشتريها أيضا في الشارع الفلسطيني، وكأن أعضاء الكنيست العرب من الكتل الوطنية الثلاث، هم سلطة تنفيذية، وليسوا نواب معارضة، واجبهم التصدي للسياسة العنصرية الصهيونية! ومن هذه المقولة، انطلقت حملة التيئيس من الأحزاب القائمة. وقادة هذه الحملة من "العرب"، رأيناهم يقودون أيضا حملات تشجع على انخراط الشبان العرب في مخطط ما يسمى "الخدمة المدنية"، التي تشرف عليها وزارة الحرب الإسرائيلية، وهي خدمة موازية للخدمة العسكرية.
للأسف الشديد، فحتى الآن، لا يصل مستوى التصدي لهذه الأفكار في شارع فلسطينيي 48 إلى المستوى المطلوب والمُلح. إذ إن الأوكار الصهيونية تستغل أحيانا الخلافات السياسية التنافسية المشروعة بين الأحزاب الوطنية، ولكن أيضا تستغل وجود أسماء في السياسة العامة، تتناغم مع ما تطرحه تلك الأفكار، من خلال توسيع نهج إرضاء الإنسان البسيط، بتحقيق مطالب شخصية عينية من مؤسسة الحكم، وهذا نهج لا يقل خطورة، كونه يخفض مستوى طموح الناس، ويبعدهم أيضا عن القضية العامة.
إن دعوات "التصالح" مع الصهيونية تصل إلى شارع فلسطينيي 48، في الوقت الذي تصعّد فيه الحركة الصهيونية هجومها المتشعب على الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده كافة، وبشكل خاص فلسطينيي 48. كما تصل هذه الدعوات "التصالحية" في الوقت الذي تنسج فيه الجهات الصهيونية ونواب اليمين المتطرف قانون "دولة القومية"، الذي يحرم فلسطينيي 48 من حقوقهم الجماعية والقومية، ويتركهم مع جزء من الحقوق الفردية. ولهذا، فإننا نتهم هذه الأوكار وأذرعها بأن مهمتها هي خلق أرضية شعبية بين فلسطينيي 48، تتقبل هذا القانون الأشد عنصرية والأخطر بين القوانين القائمة.
(الغد 2015-01-13)