مصر أم الدنيا والذكرى
ماتت فاتن حمامة، وسبقها على الطريق عشرات الممثلين والمغنين، والعلماء والمجودين، والكتاب والشعراء المصريين.. كان كبير الكهنة يعزي بالفرعون الراحل مهنئا الحاكم الجديد، ويشير الى إن الحاكم السابق رحل الى الغرب، وهي كناية عن الموت والفناء حيث وضع في أسفل مقبرة من الصخور العملاقة تسمى الأهرامات، لتنتهي الحكاية، ولتبدأ حكاية جديدة يتفنن في حبكتها مبدعون جدد بتوصيفات مختلفة.
مصر أم الدنيا، تلاقيك محبطة حزينة وقد فقدت جيلا هائلا من المثقفين والمبدعين في شتى صنوف الإبداع، ويخيل إليك حين تنزل الطائرة في ميناء القاهرة الجوي أن طابورا من العمالقة سيلاقيك، ويرحب بك، دون الحاجة الى رئيس دولة، ولارئيس وزراء، ولاوزير خارجية ولاأعضاء مجلس شعب ووزراء في حكومة، فهناك تلتقي ب(محمد متولي الشعراوي) الذي يبتسم بوجهك، ويقدم لك عظة دينية هادئة ( إذا لم تجد في الطريق حاسدا، أو حاقدا فإعلم إنك إنسان فاشل). ترحب بك أم كلثوم، وتغني... لسه فاكر قلبي يديلك حنان، ولا كلمة بتعيد الي كان، لسه فاكر، كان زمان، كان زمان.. ويكون موعد زيارتك لمصر في الربيع فيغني لك (فريد الأطرش)، (آدي الربيع عاد من تاني، والبدر هلت أنواره)، فيستشيط (عبد الحليم حافظ) غضبا، ويضغط على يدك ويغني، (قالت لاتحزن ياولدي فالحب عليك هو المكتوب)، وهو يطمع في أن تتخلى عن رغبتك في الإستماع لغريمه التقليدي ومنافسه الشرس (فريد الاطرش)، وأنت تضحك وتقول، جئت لأسمع لكما كليكما.
يرحب بك قاسم أمين وطه حسين والعقاد ومصطفى محمود، ويتقدم منك حسين رياض وأسمهان، وهدى سلطان ومحمد فوزي ومحمود المليجي وتوفيق الدقن وغيرهم، وتندهش إن أياديهم لاتتصل بيدك، بل هي بقايا أشباح... تخرج من مطار القاهرة، وأنت تنظر الصحراء الممتدة حول المطار، لاتجد الشوارع القديمة، ولا العمارات التي كانت ترسم صورة للقاهرة مبهرة، ولا الأشجار الباسقة. الشوارع معبدة، لكنها ليست أنيقة، بينما الجسور والكباري مزدحمة بالسيارات والمارة، وحي الحسين يكثر فيه الفقراء والباحثين عن مساعدة بكلمات مبهمة وعذابات مؤجلة.
حين تدخل ميدان التحرير تخرج من فمك كلمة غير مقصودة، ثم تصرخ دون إرادة منك، لماذا تريدون التغيير، فأم الدنيا لاتشتهي أن تتغير على أولادها، وهي تعرف إنهم سيندمون. الثوار والذين صنعوا الثورة لاوجود لهم في المقاه المجاورة والمنتشرة في الحواري القريبة من الميدان، وحين تسأل صديقك يقول، خلاص ماهي الفلوس خلصت، وكل واحد راح في حال سبيله! فتعود أدراجك لتراقب مجمع التحرير، وتتذكر عادل إمام وهو يأتي عند الفجرية ليصور مشاهد فيلمه الشهير( إرهاب وكباب) ويحرص أن ينتهي قبل مجئ الموظفين، تدلف على المتحف المصري، لكنك تغادر مسرعا الى أهرامات الجيزة حزينا فكل ماقرأته عن مصر، وماأبهرتك به عبر التلفزيون والحكايات والكتب لاوجود له. وعل أبو الهول يمنحك شيئا من زمنه البعيد.. الذكرى هي الحل،، فيصرخ فيك الهرم الأكبر، مصر أم الذكرى..