الإسلام وسقط المتاع ...!
قبل أكثر من 1400 عام وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر والألم يعتصر قلبه إلى جثة عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه بعد أن تم التمثيل بها وإنتزاع كبده من بين أحشائه، فتوعد عليه الصلاة السلام أعداءه بأن لو أظفره الله بهم ليمثلن بستين منهم، ليأتيه جواب الله عزوجل بنزول خواتيم سورة النحل عليه وهو واقف في مكانه: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين* وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين* واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن ربك مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)) ليتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه ويقول: بل نصبر ونحتسب.
وقبل حوالي عشرة أعوام كتبنا مقال "واإسلاماه ..." الذي تساءلنا فيه كيف لثلة من البشر أيا كانت أصولهم أو مشاربهم أو ثقافتهم أو توجههم العبث بأصول من علم الأمم فنون التسامح والعفو، وهل تراه لو كان بيننا اليوم سيقبل بما يفعله أولئك ممن خرجوا عن صفوف الأمة وكفروا كل من يخالفهم، وبما أن بعض هؤلاء استدلوا بقول ابن تيمية رحمه الله عن جواز التمثيل في المعارك، فنحن ومن جديد نتحداهم أمام العالم بأن يخرجوا لنا من كتاب الله عزوجل آية واحدة من آياته التي وصلت 6236 آية يأمرنا فيها الله عزوجل بالدعاء على غيرالمسلمين، فقط الدعاء عليهم ولا نقول قتلهم أوحرقهم أو غير ذلك، وسيقولون أننا قتلنا الطيار في معركة، فما القول في رسولنا عليه الصلاة والسلام عندما قال جملته التي هزت أركان العالم: "إذهبوا فأنتم الطلقاء" لأشد أعداءه بعد أن أظهره الله عليهم وفتح الله له مكة، لكن وكما قال الله عزوجل ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً.
في حديث متفق عليه يقول أسامة بن زيد رضي الله عنه: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله"، قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذاً، أي قالها: ليتقي سيوفنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله" قال أسامة: فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم".
ترى كم منا سمع بأمير المؤمنين قطري بن الفجاءة؟ وقبل أن تستغربوا السؤال فهذا الرجل كان خطيباً وفارساً من زعماء الخوارج الذين اتبعوا منهج تكفير كل من يخالفهم، واستباحوا نساء المسلمين وقتل أطفالهم في زمن الدولة الأموية، وكان يسلم عليه بالخلافة وإمارة المؤمنين "بأفكاره طبعاً" قرابة عشرين عاماً في أجزاء واسعة من بلاد فارس حتى أنه أصدر عملة نقدية باسمه حتى قتل في طبرستان (شمال إيران حالياً)، وكان يردد: وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع.
وبعد مقتل هذا الخليفة المزعوم بعامين ولد النعمان بن ثابت الذي عرف بأبو حنيفة النعمان، صاحب أقدم المذاهب الأربعة، وسيستغرب الكثيرون من الربط بين أحد زعماء الخوارج وبين صاحب أول المذاهب الفقهية الأربعة، وفي الحقيقة أن هناك رابط مشترك بينهم، وهو معارضتهما للسلطة في زمانهما.
قضى أبو حنيفة النعمان حياته في التجارة وتحصيل العلم وترك ميراثا عظيماً في الفقه الاسلامي، برغم تعامل السلطة معه بكل قسوة "سواء الأموية أو العباسية" بسبب آرائه السياسية، فتعرض للسجن والمنع من التدريس حتى مات رحمه الله وشهد جنازته عشرات الآلاف، فمن كان برأيكم من سقط متاع هذه الأمة؟ من إختار طريق التكفير والقتل والدم والخروج عن الجماعة، أم من إختار طريق العلم وترك الأثر الطيب والصبر على الألم والتغيير بالمنهج والحجة والعلم؟
تغلي بلادنا اليوم بعد إقدام تلك الجماعة التي تسمى "داعش" ونتحفظ على تسميتها بذلك، مطالبة بالثأر ممن إختار لنفسه طريق الإرهاب لكل من يخالفه، وأعلن خلافته ودولته وعمل على تعميدها بالدم، ونذكر هنا قول مقاتل ألماني من الجماعة للصحفي الألماني يورجن تودينهوفر عن ما يمكن أن تفعله الجماعة مع الشيعة في العالم إن هم لم يقبلوا التحول إلى مذهبها، "سنقتل 150 مليون، 200 مليون، 500 مليون، لا تهمنا الأرقام"، هكذا قال المقاتل ونحن نتساءل بدورنا ماذا لو كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم اتبع هذا المبدأ في نشر دين الإسلام في العالم، كيف سيكون حال الإسلام اليوم!
مما لاشك فيه أنه لا يوجد أردني محب ومخلص لتراب بلده سيتردد يوماً في لبس الزي العسكري وحمل السلاح دفاعاً عن دينه وأهله وإستقرار بلده، وكما كان وجعنا شديداً على ابن الأردن معاذ الكساسبة رحمه الله، كان ومازال وجعنا يزداد كل يوم على كل برئ استيقظ يوماً في الرقة أو الموصل أو غيرهما ليجد مقاتلي الجماعة يسيطرون على المدينة، فقبل بالأمر الواقع مرغما ليدفع هو وغيره من الأبرياء ثمن تطرف التنظيم وإرهابه للعالم، تماماً بقدر وجعنا على كل المظلومين في كل شبر من هذا العالم.
ولأننا لا نريد إلا الخير لبلادنا نتمنى العمل على استئصال الإرهاب من جذوره، ونتساءل هنا عن سبب قدرة أمثال تلك الجماعات السيطرة على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا، ترى هل هو ظلم وإرهاب بعض الأنظمة في تلك المناطق، الذي دفع عشائر كبيرة عجزت القوات الأمريكية عن إخضاعها للقبول بالخضوع لحكم مثل هذه الجماعات!
إن كانت الولايات المتحدة الأمريكية صادقة في نية الخلاص من الإرهاب فإن عليها نزع أصل الإرهاب ومنبعه في العالم والموجود في الكيان الصهيوني المحتل، كما على الدول العربية العمل على إنهاء الإجرام والإرهاب المستمر منذ سنوات بحق بعض الشعوب العربية والتي كان أكبر ذنوبها أنها طالبت بكرامتها وإنسانيها.
وبقدر مأساوية ما جرى كان مقدار جمال ما شاهدنا من التأكيد أن إرتسام خارطة الأردن لا يكون على الورق بل في عيون كل أردنية وأردني شريف، وتسابقهم جميعا إلى مسح دموع بلادهم بنور أعينهم.
شكراً لقيادة بلادنا، وشكراً لكل أردنية وأردني محب لتراب وطنه، وشكراً للأردن التي علمتنا كيف نكون يداً واحدة في الأحزان والأفراح، والشكر قبل كل ذلك لخالقنا عزوجل الذي ألف بين قلوبنا وجعلنا جبهة واحدة موحدة في وجه كل فتنة وتطرف وإرهاب.