كلّنا في الأردن بيك وباشا

في أحد المؤتمرات الصحافية، أخطأ صحافي بكل براءة، عندما وجّه سؤاله إلى رئيس الوزراء بقوله: "معالي الدكتور…"وتكررت على لسانه مرتين، ما دفع دولة الرئيس إلى ممازحته، قائلا: هذه المرة سوف أسامحك يا عبّادي.. وذكّره أنه انتظر عشرات السنوات وهو يحمل لقب معالي للوصول إلى لقب دولة، وها أنت بلحظة تعيدني إلى الوراء.. ضحك الجميع، لكن؛ لم يخطئ بعده أحد.
نعشق في الاردن، المبالغات، والتفخيم، وقد انتشر بشكل واسع تورّم الغدد غير المرضية، إلى غدد "اعرِف مع مين بتحكي"، والعرط على الفاضي والمليان.
تذبحنا المناصب، واحتلال المكاتب الخاصة، والوظيفة الرسمية، والمستشارية، والخبراء.
غرقنا لسنوات في معالي الشعب الاردني، واصبح لقب معالي حلم كل اردني واردنية.
لم تعد سعادة فلان، ولا عطوفة علان تكفي، فالعطوفة يحلم بالسعادة، والسعادة يحلم بالمعالي، والمعالي يحلم بدولة فلان.
لهذا دُخنا في النائب الذي يحلم ان يصل الى كرسي الوزارة، ويطمح الى ان يصل الدوار الرابع بلقب دولة.
اختلفنا في اللغة على النائب والنائبة، فسعادة النائبة، يروق لبعضهم ان يفسرها "تدليع للمصيبة"، وحار اللغويون في تغليب المذكر على المؤنث في قضية النائبة، فكيف اذا كانت "سعادة النائبة الباشا..".
استنسخ المجتمع المدني ألقاب الرتب العسكرية، فكثر لقب يا باشا، ووصلت كتلة الباشاوات الى نحو ربع مجلس النواب السابق، وتراجعت قليلا في المجلس الحالي، لكنها توسعت في عضوية مجلس الاعيان.
كلنا في الاردن بيك، وجمعها إن صح الجمع بيكاوات، تسمعها في كل مكان، في المحادثات التلفونية، وفي المحاضرات وورشات العمل، وفي المؤتمرات الصحافية، ولغة الخطاب المتداولة بين الجميع.
لم تعد الالقاب العلمية ذات جدوى وتأثير نفساني في المستمعين، فالاستاذ والدكتور والمهندس، وغيرها من الالقاب العلمية، مناداة غير مرغوبة لاصحابها، وتصغير اذا لم ترافقها "معالي الدكتور" و "سعادة المهندس" و "دولة الباشا".
لهذه الالقاب احترامها في المجتمع الاردني، وهي بالاحوال كلها القاب محترمة، اذا ترافقت مع الانتاج والعطاء والاخلاص والتواضع.
لكنها تصبح حملا على البلاد والعباد، ان كانت للتفاخر والتعالي، والوصول الى مواقع لا تتناسب مع مؤهلات صاحبها.
بعضهم يطنش اذا قال له محدثه يا دكتور، وهو في الواقع خريج بكالوريوس بتقدير مقبول، وينتفض اذا قال له يا بيك، وهو في الواقع باشا، فكيف الحال اذا اخطأ متحدث ما بين معالي ودولة.!
في الصحافة، توافقت الكتابة الصحافية عند معظم وسائل الصحافة والاعلام، على عدم استخدام الالقاب، والالتزام بالالقاب العلمية فقط، لكن بعض "البيكاوات والباشاوات والسعادات والسماحات والمعالي والدولة… لا تنفرج اساريرهم عندما يغيب اللقب من امام اسمائهم، ولا يفرحون بالالقاب العلمية، لانها اصبحت كثيرة، وببلاش على رأي بعضهم.
معالي الشعب الاردني، بيكاوات الشعب الاردني، باشاوات الشعب الاردني، سعادات الشعب الاردني.. تواضعوا قليلا، فلا يمكث في الارض سوى العمل المنتج الذي يزرع في الوجدان الشعبي، ويكرس صاحبه كصاحب مبادرة وانجاز حقيقي، اما كل "النفخ والعرط" الاخر فانه يختفي مع اول ابتعاد عن المنصب، ومع اول حفنة تراب تنهال على جثة المرحوم في قبره، وكأنه لم يكن.
(العرب اليوم 2015-04-19)