قتلة النفوس

تم نشره الأربعاء 22nd نيسان / أبريل 2015 12:38 صباحاً
قتلة النفوس
د. ديمة طارق طهبوب

ما أوضحه وأعمقه وأدقه من وصف وتشريح رباني لمداخل النفس الانسانية في الاية الكريمة «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»، فالدارج في فهمنا ان الجسد هو الذي يُقتل فيموت الانسان على اثر ذلك، ولكن التعبير القرآني كان مبحرا في تجاويف الروح والنفس فجعل لها مقتلا كمقتل الجسد وجعل الاقتراب منها بسوء ككبيرة القتل ذلك ان النفس قد تموت أيضا لو اعتُدي عليها والجسد ما زال حيا، ولكنها حياة والموت سواء، وقد يبلغ المرء السأم وتضيق عليه الدنيا بما رحبت وما به سوى العنت من ظلم العباد!
لم يرد الله لعباده حياة ظاهرية فقط يُرى فيها الانسان بمظهر القوة بينما هو حطام من الداخل بل كان لحياة النفْس والباطن أهمية أكبر فهو الوعاء الأساسي الذي ينبع منه الظاهر الحسن، وما لم يكن الظاهر انعكاسا لأصل متين فسيظهر الألم والضعف والكسرة في نظرة العين وزلة اللسان ومحاولة التجلد والتصبر قصرا.
أراد الله لعباده ان تكون العلاقة بينهم غاية في الرقي تتجاوز عالم المادة والمحرمات المحسومة من دم ومال وعرض فجعل للنفس والقلب والكرامة سياجا لا يجب ان يُمس بسوء بل جعل الاحسان العاطفي والوصال الوجداني من أسباب دخول الجنة وصحبة المصطفى والقرب من مجلسه، بل ان السب والشتم وهما مجرد ألفاظ تأخذ من حسنات المرء حتى تفنيها فيطرح في النار.
يوم جاءت خولة بنت ثعلبه تشتكي الى الله ظهار زوجها لها لم يكن زوجها قد قتلها جسديا ولكنه اغتالها معنويا، اغتال تاريخها كزوجة وأم وامرأة لها مشاعر وكينونة، تنكر لتضحيتها وتجربتها وصبرها فأنصفها الله من فوق سبع سماوات ورد اليها روحها وحقها وكرامتها.
يوم انتقص أبو ذر من بلال فقال له يا ابن السوداء كانت الظلامة غير مادية ولكن الاذى النفسي استحق الاعتذار، لأن وجعه وأثره قد يكون أنكى من حد السيف
كثيرة هي الظلامات النفسية التي نقترفها بحق الاخرين ونغفل عنها بينما تظل تطحن في نفس من تلقاها وتترك أثرا قد يتجاوزه او لا يتجاوزه الشخص بحسب قوة شخصيته، فما بالنا لو زاد الامر على ذلك بالظلم المادي بالاعتداء وأكل الحقوق والتجبر على ما لا يستطيع رد الاذى او حتى الانتصار لنفسه فلا يجد سوى بوابة السماء بدعاء الضعيف للقوي سبحانه «اللهم يا أحد من لا أحد له ويا سند من لا سند له ان عبدك استقوى علي فأرني قوتك عليه» وقد جعل الله للمظلوم مكانة وافضلية ونصرا حتى ولو كان كافرا!
وبالمقابل شارك الله عباده الذين يتقربون اليه بتضميد جراح القلوب ورفع الأذى عن الناس وجبر كسورهم وعثراتهم بصفته وقدرته على الإحياء فالمحيي هو الله وحده متفردا بالقدرة ولكنه رفع من قدر عباده الذين يسعون ويجتهدون لأجل الناس فجعل لهم ذات القدرة على احياء النفوس وجعل احياء نفس واحدة واعادتها الى حديقة الرضى بالله وعن الله في ميزان حسنات الانسان كاحياء كل نفوس ولد آدم «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» وكانت الصورة المرعبة بالمقابل والوزر الكبير لمن قتل نفسا فكأنما قتل بها البشرية جمعاء.
قتلة الأجساد واضحون مجرمون وموغلون في اللاانسانية ولكن قتلة النفوس أكثر بكثير، ولكم تزدحم حياتنا بهم تحت أقنعة البراءة الظاهرية وللآخرين عليهم سجلات حساب ورد روح وكرامة وحق لا تكفي حياة الدنيا لسدادها فمن يجبر قلبا بلغ فيه الانكسار مداه، أم من يمنع عينا من انهمار دمعها وجعا، أم من يرد كرامة سحقت وسُحق صاحبها ولو بدى مستقيم الظهر للناس، ام من يرد حقا اغتصب وظل اصحابه بعده أذلة يسألون الناس؟!
قتلة النفوس قد ينجون من محاكم الدنيا وقوانين البشر القاصرة، ولكنها نجاة مؤقتة، فمن قتله الناس يحييه الله بوعد الانتصار له في الدنيا قبل الاخرة، ولقد استرسل ابن القيم في الفوائد تفصيلا وتطمينا للمظلوم وتحذيرا للظالم فقال «سبحان الله كم بكت في تنعم الظالم عين أرملة واحترقت كبد يتيم وجرت دمعة مسكين (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) لا تحتقر دعاء المظلوم فشرر قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك, ويحك نبال أدعيته مصيبة وإن تأخر الوقت, قوسه قلبه المقروح, ووتره سواد الليل, وأستاذه صاحب (لأنصرنك ولوبعد حين) وقد رأيتَ ولكن لستَ تعتبر احذر عداوة مَن ينام وطرفه باك يقلب وجهه في السماء يرمي سهاما ما لها غرض سوى الأحشاء منك».
وان تحذيرا كهذا وما سبق وزاد عليه في القرآن والسنة والسيرة لحري ان يجعلنا نبالغ في تعهد ألسنتنا وما تقول وأيدينا وما تقترف وحواسنا وما تفعل لعل الله ينجينا من قتل النفوس ولو كانت واحدة ويجعل لنا أجرا وقدرة الإحياء فمن أشركه الله في ملكه في الدنيا وجعل حاجات الناس اليه فعدل وأقسط وقضى كان ذلك من علامات الاصطفاء والقبول وذلك هو الفوز العظيم.

(السبيل 2015-04-22)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات