نفاق الوطنية!

في ذروة تصاعد الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات الأربع الماضية، كان تساؤل "نخبة" متنفذة في الأردن، خلال جلسات لا تخلو من استشراق: لماذا يخرج الشباب إلى الشوارع؟ ماذا يريدون؟ لماذا كل هذا الصراخ بسبب تفشي الفقر والبطالة وتورم المديونية، ووصولها إلى ثلاثين مليار دولار؟
المطالبة بإصلاحات سياسية ضمن مظلة الدستور، تمنح الشعب بعضا من حقوقه المغيبة وبشكل سلمي، لا تدخل ضمن مفهوم "عدم الوطنية". فمن يريد برلمانا حقيقيا يطالب بوقف انتهاك المال العام، هو حتما صاحب إرادة حرة، وفاعل في بلده لا خصم له، وعكسه من يؤسس لدمار وطنه بالسكوت على الخراب والمسارات الخاطئة التي يسير عليها.
في العام 2012، أظهرت الدراسات البحثية تسجيل 901 احتجاج، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الدولة خلال عام واحد؛ شارك فيها نحو 760 ألف عامل وعاملة. وقد تركز نصف هذه الاحتجاجات، وفقا لمركز الفينيق للدراسات الاقتصادية، في القطاع العام، الذي تكون فيه الحكومة رب العمل. ويبدو أن تلك الاحتجاجات على خطورة عددها والأسباب التي دفعت إلى حدوثها، كانت محل تشكيك من قبل "النخبة" ذاتها المعزولة عن الحقيقة والواقع، والراغبة دوما في تعميم عبارة "كل شيء تمام"، حتى لو احتج الشعب كله بشيبه وشبانه.
مضت سنوات الاحتجاج، فوجدت هذه "النخبة" اليوم مسرحا آخر لإقصاء الأردنيين وإنكار معاناتهم، بل وتطاولت على جراحهم. وبنظر أولئك "الذوات"، فإن نقل التعبير بالنسبة للأردنيين من الشارع إلى المشاركة في الاستطلاعات التي تكشف الاستياء من الوضع الاقتصادي ومآلاته، يعد "عدم وطنية"؛ فلا يحق للأردنيين أن يعبروا لا في الشارع ولا في الاستطلاعات. ففي أحد الاستطلاعات، قال 57 % من الأردنيين إن الاقتصاد الأردني سيئ، وسيئ جدا. وهؤلاء بنظر "النخبة" إياها، يكرهون بلدهم ولا يحبونه. فأي إقصاء أكبر من ذلك، إذ لا يحق لمن يعاني من تصاعد الأسعار وضآلة الأجر الشهري من التعبير عن رأيه، وإن عبر فإنه يكون "متشائما"، بل ومتمنيا لبلاده الخراب؟
لا أعتقد أن مسؤولا كان عبئا على مؤسسة قادها لسنوات إلى الخسائر، يمكن أن يتفهم أوجاع الأردنيين. والمسألة هنا لا علاقة لها بمستقبل الاقتصاد أو الدفاع عن سمعته، بل بمصالح شخصية ونفعية.
اضمحلال الطبقة الوسطى ليس مؤشرا اقتصاديا عميقا بنظر أصحاب الرواتب العالية على حساب الدولة. وغياب العدالة أيضا ليس مهما. التغني بمؤشرات الاقتصاد الكلي، وبحجم احتياطات البنك المركزي من العملات الأجنبية، هو المهم، ويتفوق على أنين عجوز في المفرق أو مهندس شاب في معان. والحالة هذه، فإنه يمكن لبعض هذه "النخبة" أن يقترح في قابل الأيام تشريعا يعاقب بالسجن كل أردني يبدي رأيا غير الرأي الرسمي في الاقتصاد.
(الغد 2015-06-20)