الدولة القطرية والهوية الوطنية والمواطنة

تم نشره الأربعاء 12 آب / أغسطس 2015 01:10 صباحاً
الدولة القطرية والهوية الوطنية والمواطنة
مروان المعشر

إحدى نتائج الثورات العربية الماثلة أمامنا بكل وضوح، هي تآكل الدولة القطرية في أجزاء متعددة من الوطن العربي. إذ كيف يمكن لنا اليوم أن نتحدث عن استمرار الدولة القطرية في سورية أو ليبيا أو اليمن؟ وحتى دولتان كالعراق ولبنان تواجهان أزمات حكم باتت فيها غير قادرة على السيطرة على أراضيها كافة. وفي حين كانت الدول القطرية سابقاً تتوق إلى الاندماج في أوعية أكبر لتحقيق حلم القومية العربية بوطن عربي موحد، فقد بتنا نشهد اليوم بروز لاعبين فاعلين ما دون الدولة، مثل تنظيم "داعش" والمليشيات الشيعية في العراق وحتى حزب الله في لبنان، باتوا يهددون ليس مفهوم الدولة القطرية وحده، ولكن أيضاً مفهوم الهوية الوطنية ومفهوم المواطنة.

لا يأخذنا التحليل طويلاً لإدراك أن العديد من الدول القطرية في الوطن العربي كانت أوعية شبه فارغة، لأنها بنيت على أسس ضعيفة. فبدلاً من بناء المؤسسات الديمقراطية ومفاهيم حديثة للهويات الوطنية والمواطنة، استعيض عن ذلك بأنظمة فرضت الاستقرار الأمني بالقوة وبشكل مصطنع، أو اعتمدت المحاصصات الطائفية التي لا تنمّي شعوراً حقيقياً بالمواطنة. وعندما وقعت الواقعة، لم تجد هذه الدول مؤسسات تحميها، ولا مواطنين يدينون بالولاء لها وليس لطوائفهم أو هوياتهم الفرعية؛ فشهدت انهياراً سريعاً لأبنية هشة لم تحتمل الهزات التي اعترت البلاد.

هل هناك أبلغ من هذه الدروس ان أردنا أن نبدأ بداية جديدة؟ هل نحتاج إلى هزات أكبر قبل أن ندرك أن الاستقرار الحقيقي لا يعتمد على الأمن وحده، وإنما على التنمية أيضاً؛ وعلى مفهوم حداثي للهوية الوطنية الجامعة التي تسمو على أي هوية فرعية؛ كما على مفهوم حداثي أيضاً للمواطنة، تشعر من خلاله مكونات المجتمع كافة بأن حقوقها محفوظة، فلا يتغول عليها أحد؛ وعلى بناء متين لمؤسسات الدولة، يستطيع الصمود أمام كل الهزات، لأنه سيجد مواطنين وليس اتباعا مستعدين للوقوف يداً واحدة ضد الأخطار الخارجية، بدلاً من انشغالهم في صراعاتهم الداخلية؟

لقد أثبتت الاضطرابات أن الأوطان لا تحمى بالأناشيد الوطنية والعنتريات، بل بالمؤسسات الراسخة؛ وبترسيخ مفهوم المواطنة الجامعة.

الحمد لله أننا في الأردن في وضع أفضل بكثير من العديد من الدول حولنا. ولكن هذا لا يعني الاسترخاء، لأننا بحاجة إلى ولوج مرحلة جديدة، يكون فيها بناء المؤسسات التعددية أولى الأولويات؛ من قانون انتخاب جديد يبتعد عن "الصوت الواحد" ويبدأ بالتأسيس لمجلس تشريعي قوي، إلى خطة اقتصادية تبتعد تدريجياً عن النظام الريعي وتؤسس لاقتصاد ذاتي النمو مستدام، يشجع الإنتاجية والابتكار والاستثمار، كما ينادي بذلك جلالة الملك، إلى نظام تربوي مختلف جذرياً عن النظام الحالي، لناحية الحاجة إلى تشجيع النشء على التفكير النقدي والمساءلة والإبداع واحترام مكونات المجتمع والآراء المختلفة جميعاً.

لا بد من الاعتراف أن هذه القضايا وغيرها، والتي يطالب بها جلالة الملك بوضوح ضمن تصور إصلاحي متكامل، تواجه بمقاومة شرسة لهذا المشروع التنويري السياسي والاقتصادي والمجتمعي من داخل الدولة. كما لا بد من الاعتراف أنه لا يمكن الحديث عن هوية وطنية جامعة، بغض النظر عن الأصل أو الدين أو الأيدولوجيا السياسية أو الجندر، خارج مفهوم حداثي للمواطنة، ينمي شعور الجميع بأنهم شركاء في بناء هذا الوطن الغالي.

لا يكفي أن يؤنب رئيس الوزراء البيروقراطية الأردنية لإعاقتها الاستثمار، بعد أن أبدى جلالة الملك استياءه؛ ولا يكفي أن تعترف الحكومة بأنها "سهت" في موضوع التعليم. حان الوقت لمقاربة جديدة متكاملة لبناء الدولة الأردنية الحديثة؛ مقاربة تدرك الصعاب، لكنها لا تقف عندها. حان الوقت لطريقة إدارة مختلفة تماماً عن الماضي، تؤسس لمستقبل تعددي حداثي، مستقر ومزدهر في الوقت نفسه.

واقع الحال أن الدولة الأردنية ليس لديها بعد مثل هذا المشروع التنويري المستقبلي المتكامل. مشروعها لم يستطع بعد أن يخرج من الشرنقة الأمنية الصرفة، وهو مشروع قد يحقق الاستقرار الآني، لكنه لا يصنع مستقبلاً.

(الغد 2015-08-12)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات