هم ونحن!

ثمة أسباب تؤسس للنجاح، تقابلها عوامل تدفع للفشل، فيما الدول والمجتمعات كالأفراد، تمر بمنعرجات خطيرة وتجارب كبيرة، تارة تجعلها في أعلى المراتب، وفي أخرى ضمن أدناها. وتقف الدول الراسخة في الأداء والعلاقة مع الإنسان في مقدمة صفوف الناجحين، بعد أن قطعت شوطا في البناء لحماية ورعاية حقوق مواطنيها.
ليس الناتج القومي الإجمالي الفرنسي البالغ 2.4 تريليون دولار، هو الوحيد اللافت للانتباه في بلاد تتزايد فيها فرص المشاركة والمساواة والحياة. بل وتتقدم باريس على واشنطن ولندن وطوكيو في معدل الإنتاج؛ إذ يقدم الفرنسي في كل ساعة ما قيمته 48 دولارا للناتج المحلي. وليس من قبيل الصدفة أن تكون فرنسا قبلة السياح من كل أرجاء الأرض، وهي التي تستضيف سنويا ما يقارب مئة مليون سائح.
غير أن النجاح وأسراره لم يكونا إلا بيد الانسان الذي يعمل الجميع من أجل خدمته وتوفير أفضل السبل لحياة أكثر جمالا ورقيا له. وفي المقدمة الحكومات التي تفعل الكثير بعيدا عن التشدق. وهنا لا بد من الوقوف طويلا أمام التفوق الحكومي في تيسير وضمان حقوق التعليم والرعاية الصحية؛ فالقطاع الخاص لا يناور في هذه المساحة، ومدارس الحكومة هي الأفضل، وكذلك المستشفيات. وهي خدمات تتكفل بها الدولة، لذا كان التعليم مجانيا. كما أن كل الفرنسيين يحظون برعاية صحية حقيقية.
أينما اتجهت العين في فرنسا، فإنها تقع على قيمة تعلي من شأن الإنسان. ففي أهم المواقع السياحية على شاطئ بحر دوفيل الذي يفصل بين فرنسا وبريطانيا، يكبر هذا الشاطئ لخدمة السياح والسكان المحليين، فلا تغول هنا لطبقة المال وأصحاب المنتجعات ، فالأهمية والحقوق ليست للاستثمارات، بل للإنسان الذي يأخذ فرصته في الترويح عن نفسه من دون أن يدفع حتى يورو واحدا. وهو الأمر الذي يكاد يكون معكوسا بالنسبة لنا!
شواخص المرور وهندسة المدينة وشبكة شوارعها وطرقها، تحفة معمارية في باريس؛ فوق الأرض وتحتها، وهي بالنسبة للزائر العربي لحظة صدمة لا تزول. فالطريق والإشارات والملاحظات عبرها تعلمه بشكل متواصل ودقيق كيف يقود سيارته من دون التشوهات التي نمارسها في طرقاتنا. وشبكة النقل العام الذكية والشاملة قصة أخرى لنجاح الحكومات المنتخبة، في الوقت الذي لا توجد فيه شبكة نقل عام منافسة في كل المنطقة العربية تقريباً. والمقارنة تصبح أكثر قسوة عندما يدخل المرء إلى متنزهات الأطفال، ويرى حجم التجهيزات التي أسست لسعادة الطفل وأمنه؛ فالماء وجمال الطبيعة والأرضيات المعدة لضمان سلامة الأطفال، ومثلها الألعاب التي يضمها المتنزه، كلها تؤشر معا على أن الإنسان هو القيمة الأعلى في بلاد قطعت شوطا في احترام آدمية البشر.
قد يقول قائل إن المقارنة غير عادلة. وهذا صحيح. لكن البلاد العربية مجتمعة -رغم ما فيها من ثروات- فشلت في أغلبها في التأسيس لشبكة نقل عام أو شوارع جيدة أو متنزه للأطفال... وفشل أغلبها أيضا بشكل أكبر في كسب احترام مواطنيها الذين يعيشون غربة قاسية في أوطانهم!
(الغد 2015-08-18)