العبث بتراث الأمة وهدمه.. "نهاية العقول" للرازي مسخة "فوده" مثالا
كان الأستاذ النسابة المؤرخ المحقق جغرافي الجزيرة العربية، الشيخ حمد الجاسر ـ رحمه الله ـ يغضب غضبا شديدا اذا رأى كتابا قذفت به المطبعة، فكان ممسوخا، قد انهكه العبث وسوء الفهم، وعدم القدرة على قراءة النص كما أراد له مؤلفه، والعجلة في إخراجه، اما حرصا على الكسب المادي، او لقلة المبالاة وعدم الخبرة في التعامل مع كتب المتقدمين.
او لان (المحقق) اشتهى ان يكون في رأي محققا، فكان ـ للأسف ـ عابثا ماسخا، بعيدا كل البعد عن بيئة العلم، ونفس العالم، وبالتالي يظهر جليا ان كل انتاجه المسمى "علمي" هو في الحقيقة اشبه ما يكون بالمكايدات او عبث الصبيان.
وليس العلم امنية، او كلام يلوكه صغار المتفرجين، بل العلم شيئ اخر لم يذق حلاوته ويعرف حقيقته كثير من أصحاب الجبب وحروف (د).
على أي حال، اظن ان حمد الجاسر ـ رحمه الله ـ لو رأى "نهاية العقول" الذي قذف به في وجوهنا سعيد فودة/ د، لغضب اشد من غضبة اطفيش في القصة المشهورة له مع مخطوط تاريخ "ابن المجاور" في دار الكتب المصرية.
على أي حال ، الواجب اكاديميا على سعيد فودة/ د. ان لا يتطاول على كتب الاعلام، الا بعد ان يكون شبه قادر على قراءة النص وفهمه وضبط ومعرفة مقصود مؤلفه، ولا يكفي حتى يكون محققا "شهوة ان يكون محققا"، كما اشتهى من قبل ان يكون شيئا مذكورا، فطعن في احد اكابر علماء الملة، ولم يحسن تصور كلامه، فضلا عن مناقشته الحساب (ابتسامة عريضة مع قهقهة).
على أي حال وبلا طول سيرة.
يَسود اعتقادٌ عند بعض القرَّاء أن (المتخصص) في فنٍّ من الفنون قادرٌ على تحقيق أيِّ كتاب تراثي في (تخصُّصه)، فهل هذا الاعتقاد صحيح؟
استحضرتُ هذا السؤال وأنا أطالع تحقيقَ سعيد فودة/ د. لكتاب (نهاية العقول) للإمام الرازي، والذي يُعدُّ مِن أهم كتب الإمام الرازي الكلاميَّة، وأوسَعِها من ناحية التحرير والبحث الكلامي.
وقد صدَرَت هذه الطبعة من الكتاب بتحقيق سعيد فودة، مطلَعَ العام الميلاديِّ الحالي 2015، عن (دار الذخائر) بلبنان في أربعة مجلدات.
وعند تصفُّح التحقيق كانت لي بعضُ الوقفات من وجهة نظري، والتي سأعرضها؛ محاوِلاً تحرِّيَ الدقة والموضوعية فيما أورِد؛ لعل المحقق أن يأخذ ببعضها إذا تبيَّن له صوابُها.
• الوقفة الأولى: عمل المحقِّق في نِسبة الكتاب لمؤلفه، وإثبات العنوان:
لم يختلف أحدٌ مِن مترجمي الإمام الرازي في نسبة هذا الكتاب إليه، وكذلك لم تَختلف النُّسخُ الخطية المتوفرة للكتاب في نسبة الكتاب إلى الإمام، إلا أنه كان ينبغي على المحقِّق إثباتُ ذلك في مقدمته للكتاب؛ كخطوة من خطوات التحقيق.
وما قيل في نسبة الكتاب يقال في عنوان الكتاب؛ إذ لم يَختلف مُترجِمو الإمام الرازي في عنوان الكتاب إلا حكايتَهم له على سبيل الاختصار، فغالِبُهم أسماه (نهاية العقول)[1]، إلا ما كان من الصفدي إذ أسماه بمُحتَواه على الاختصار، فسماه (نهاية العقول في أصول الدين)[2]، وقد اتَّفقَت النسخ الخطية للكتاب على تسميته (نهاية العقول في دِراية الأصول)، وأثبتَ المصنِّف داخل المتن نفسَ الاسم السابق، فقال: "ولما خرج الكتاب على هذا الوجه، سميتُه: نهاية العقول في دراية الأصول".
ولم يعلِّل المحقِّق هنا أيضًا اختيارَه العنوان الذي أثبتَه على غلاف الكتاب (نهاية العقول في دراية الأصول)، وكان حَرِيًّا بالمحقق فعلُ هذه الخطوة، وعدمُ إغفالها كسابقتها.
• الوقفة الثانية: موقف المحقق من ذكر الطبعات السابقة للكتاب:
ذكَر المحقق أن الكتاب لم يَصدُر مِن قبل إخراجه له في هذه الطبعة، بل وتعجَّب أن مِثل هذا الكتاب لم يُعتنَ به من قَبل. مع أن الكتاب حُقق من قبل هذه النشرة ثلاث مرات:
الأولى: صدَر في الإسكندرية، بتحقيق الدكتور علي سامي النشار، عام 1973هـ[3].
الثانية: حُقِّق في رسالة ماجستير بكلية دار العلوم - قسم الفلسفة، عام 1991م، إعداد الطالب صلاح محمد عبدالرحمن الجمالة، بإشراف الدكتور محمد السيد الجلَيَند[4].
الثالثة: صدر في (سيواس) بتركيا، بتحقيق محمد باقتير وعبدالله دمير، عام 2013م.
وكان جديرًا بالمحقق ذكرُ هذه الطبعات وما وقَف عليه منها، وبيانُ إضافته عليها؛ لذِكْر الفائدة المرجوَّة من طبع الكتاب مرةً أخرى، مع ترجيحي بعِلم المحقق المسبق بهذه التفاصيل؛ بدليل ما جاء في الموضوع المنشور في موقع (الأصلين)، وفيه ذكر لتلك الطبعات، وكان المحقق مِن المشاركين في هذا الموضوع بتعليق[5]، ومع هذا لم يُشِر إلى ذلك في مقدمته للتحقيق.
• الوقفة الثالثة: النسخ الخطية التي اعتمد عليها المحقق:
كتاب (نهاية العقول) من الكتب التي توفَّرَت له كثيرٌ من النسخ الخطية، وهي مبثوثةٌ في مكتبات العالم، فكان ينبغي على المحقِّق استيفاءُ تلك النسخ الخطية ودراستُها، واختيار النُّسخ الأوثقِ منها والأصلحِ لإخراج الكتاب، وهذا ما لم نَجِده في عمَلِه، خاصة أن الكتاب تتوفر له العديدُ من النسخ المتقدمة قريبة العهد من المؤلِّف؛ منها على سبيل المثال:
• نسخة (أحمد الثالث)، رقم (1874)، 331 ورقة بتاريخ 687هـ.
• نسخة (بايزيد)، رقم (19030)، 170 ورقة بتاريخ 618هـ.
• نسخة (Kara Mustafa)، رقم (360)، 170 ورقة بتاريخ 618هـ.
• نسخة (رضوي)، رقم (13758)، بتاريخ 622هـ.
• نسخة معهد الدراسات الشرقية بـ "سانت بيترسبرغ" بروسيا، مصورة في (جمعة الماجد)، بتاريخ 595هـ.
• نسخة (يني جامع)، بتاريخ 622هـ.
عوضًا عن ذلك ترك المحقق هذه النسخ، واعتمد على نسختين متأخرتين، ونسخةٍ واحدة متقدِّمة، ولم يعلِّل اقتصاره على تلك النسخ دون هذه.
كما لم يَقُم المحقق - مع ما ذُكر - بتقديم توصيفٍ دقيق للنسخ الخطية التي اعتمد عليها؛ فمِن ذلك: عدم إشارته لتاريخ نَسْخ النسخة (أ)[6]، وهو مثبَتٌ في آخر النسخة، ومثبت في آخر مطبوعة المحقق. كذلك النسخة التي رمَز لها المحقق بـ (ب)، نسخة المكتبة السليمانية رقم 782[7]، وعند العودة لفهرس المكتبة السليمانية تبيَّن لي أنه لا يوجد تحتَ هذا الرقم كتاب الرازي، بل الموجود كتاب (المفصل شرح المحصل) للكاتبيِّ القزويني، فعلى أيِّ نسخةٍ اعتمَد المحقق في المقابلة؟
• الوقفة الرابعة: مدى توفيقه في قراءة النص وإثبات الفروق:
اعتمَد المحقق في إثبات النص إحدى النسخ التي أشار إليها وجعَلها أمًّا، وقابل باقيَ النسخ عليها ولم يَحِد عنها إلا في النادر، حتى لو كان الخطأ بيِّنًا فيها، والإشكال أن المحقِّق لم يُصرِّح: أي النُّسخ التي اعتمدها بصِفتِها النسخةَ (الأم)؟ والظاهر من عمله أنه اعتمد النسخة (أ) أمًّا.
وأدَّى التزام المحقق بنص النسخة (الأم) إلى التزامه بأخطائها، حتى لو كانت ظاهرة، وهذا لا يَستقيم خاصة في حال إجماع النُّسخ الأخرى على خلافها، مع العلم أن النسخة (أ) ليست هي نسخةَ المؤلِّف، ولا هي منقولة عن نُسخته، ولا هي نسخة أحدٍ من تلامذته حتى يلتزم بها التزامًا تامًّا.
وقد رأيتُ بعض القراءات أولى مما ذهَب إليه المحقق، ولعل الصواب في غير ما ذهبتُ إليه، وهذه بعض النماذج أُورِدُ ما ترجَّح لديَّ من قراءة بعض المواضع في المتن على خلافِ ما ذهب إليه المحقق، وسأعتَمِد على نسخة (سانت بيترسبرغ) المصوَّرة بـ (جمعة الماجد)، ونسخة (يني جامع)؛ إذ هُما من النُّسخ المتقدِّمة جدًّا للكتاب، خاصةً الأولى؛ إذ كُتبت في حياة المؤلف عام 595هـ.
والملاحظات التي سأوردُها على الترتيب التالي:
(الكلمة المستدرَكة) الموضع من الكتاب المجلد والصفحة، ثم القراءة المختارة من النُّسخ الأخرى، والإشارة إلى مَواضعِها فيها، واقتصرتُ على تدوينِ مُلاحظاتي على منتصف الجزء الأول من الكتاب، وإلا فالمطالع سيتبيَّن له أكثرُ من ذلك، ولكن خشية الإطالة، فاقتصرتُ على النماذج التالية:
1 - (لكان قادرًا) 1/ 137، والصواب: (كان قادرًا)؛ كما في نسخة روسيا [ق 15/ و]، ونسخة (يني جامع) [ق 8/ و]، والفرق في المعنيين كبير.
2 - (عدد متناهٍ) 1/ 146، والصواب: (عدد معين مُتناهٍ)؛ كما في نسخة (يني جامع) [ق 9/ و].
3 - (عندي ضعيفة من وجهين) 1/ 147، وفي نسخة روسيا [ق 18/ و]: (ركيكة جدًّا)، وفي نسخة (يني جامع) [ق 9/ ظ]: (باطلة ركيكة جدًّا).
4 - (عدم الترجيح) 1/ 148، وقال المحقق: إنها ساقطة من النسخة (أ)، والمثبت في النسختين الأخريين: (عدم المرجح)، فمِن أين أتى بهذه الكلمة المثبتة في النص؟!
وعلى الرغم من كونه صوابًا فإنَّه مخالفٌ للمنهج العلمي في إثبات النص، وفي نسخة روسيا [ق 18/ ظ]، ونسخة (يني جامع) [ق 9/ ظ]: (عدم الترجيح).
5 - (بمعلومتين) 1/ 149، وفي النسخ الأخرى التي اعتمد عليها المحقق: (بمعلومين) وهو الصواب؛ كما في نسخة روسيا [ق 19/ و]، ونسخة (يني جامع) [ق 9/ ظ].
6 - (فيحضر) 1/ 149، وفي نسخ روسيا [ق 19/ و]، و (يني جامع) [ق 9/ ظ]: (فيخصه)، والسياق قد يَحتمل القراءتين.
7 - (والإمكان) 1/ 151، وفي النسخ الأخرى: (والوجوب والإمكان) وهو الصواب؛ كما في نسخة (يني جامع) [ق 9/ ظ].
8 - (الوجه) 1/ 152، وفي النسخ الأخرى: (الوجوه) وهو الصحيح؛ كما في نسخة (يني جامع) [ق 10/ و].
9 - (تُميّز) 1/ 153، وفي النسخ الأخرى: (تمييز) وهو الصحيح؛ كما في نسخة روسيا [ق 20/ ظ]، و (يني جامع) [ق 10/ و].
10 - (إسنادها) 1/ 158، والصحيح: (استنادها)؛ كما في نسخة روسيا [ق 21/ و]، و (يني جامع) [ق 10/ و].
11 - (والمتكلمون) 1/ 160، والصواب: (المسلمون)؛ كما في نسخة روسيا [ق 21/ ظ]، ونسخة (يني جامع) [ق 10/ ظ].
12 - (النظرية) 1/ 164، والأقرب: (الضرورية)؛ كما في نسخه الأخرى، وكما في (يني جامع) [ق 11/ و].
13 - (ثلاث مقدمات كلية) 1/ 165، وقال: إن (ثلاث) سقطت من النسخ الأخرى، والصحيح عدم إثباتها؛ كما في نسخة روسيا [ق 21/ ظ]، و (يني جامع) [ق 11/ و]؛ لأنه كما سيأتي أنها أربع مقدمات لا ثلاث.
14 - لم يثبت في المطبوعة 1/ 165 قوله: (ومنها أن القدر المشترك بين هذه الصور ليس إلا كونها مشاركة لشيء واحد)، وقال: إنها ضُرب عليها في الأصل، مع أنها مثبتة في النسخ الأخرى، ونسخة روسيا [ق 21/ ظ]، و (يني جامع) [ق 11/ و]، والصحيح إثباتها في النص، لما ذُكر، ولكونها المقدِّمة الكليَّة الرابعة، التي تؤيد عدمَ إثبات كلمة (ثلاث)؛ كما في التعليق السابق.
15 - (لا يكون ذلك كان الجزم صحيحًا) 1/ 166، والصحيح: (لا يكون الجزم صحيحًا)؛ كما في نسخة روسيا [ق 22/ و]، و (يني جامع) [ق 11/ ظ]؛ لأن المؤلف أرد نفي الجزم لا إثبات صحة الجزم.
16 - (لأن التصديق لا محالة مشروط لا محالة) 1/ 174، وفي النسخ الأخرى: (مشروط لا محالة) وهو الصحيح؛ كما في نسخة روسيا [ق 25/ و]، و (يني جامع) [ق 11/ ظ]، وغالبًا هذا من انتقال نظر النَّاسخ، وتابَعَه المحقِّق عليه.
17 - (إذا كان مستنِدًا إلى الحسن) 1/ 204، والصحيح الذي لا يصح غيره: (إذا كان مستندًا إلى الحس)؛ كما في نسخه الأخرى، وكما في نسخة روسيا [ق 34/ ظ]، و (يني جامع) [ق 16/ و].
ويبقى أن نَذكر أن الأستاذ لم يُذيِّل الكتاب بكشَّافات عِلمية ولو تقليدية، مع أهمية الكشَّافات؛ خاصةً مع كتابٍ بهذا الحجم. وأيضًا لم يَعزُ المحققُ كثيرًا من الأقوال إلى أربابها، وهي أشياءُ لا ينبغي إغفالُها كما هو واضح.
أخيرًا آمُل من سعيد فودة - إن رأى في هذه الوقفات مِن الصواب! - استِدراكَه مع غيرها في طبعةٍ أخرى من الكتاب تَليق به (أي الكتاب) وبمؤلِّفه، أو إخراجَ مجموع الاستدراكات في مجلَّد مستقل، وأرجو أن أكون قد ساعدتُ القارئ في الإجابة على التساؤل الذي افتَتحتُ به المقال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وفَيَات الأعيان، لابن خَلِّكان (4/ 248)، تاريخ الحُكَماء، للقفطي (صـ 291)، تاريخ الإسلام، للذهبي (13/ 137).
[2] الوافي بالوفيات، للصفدي (4/ 248).
[3] المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع لصالحية (3/ 23).
[4] دليل الرسائل الجامعية التي نوقشت في كلية دار العلوم، صـ207.
[5] انظر الموضوع وتعليق المحقِّق عليه في منتدى الأصلين.
[6] انظر مقدمة المحقق للكتاب (1/ 6).
[7] السابق.