المعلم تركي عبابنة

لم يكن يبحث عن ترف العيش، عندما قرر المعلم في وزارة التربية والتعليم تركي عبابنة، تشغيل سيارته القديمة على خط عجلون-إربد وبالعكس، لغرض الحصول على دخل إضافي يساعده على ظروف الحياة الصعبة. فبعد 27 عاما على معاناة التدريس في مدارس الحكومة، لم تتوفر لدى عبابنة وعائلته أساسيات وملامح العيش البسيط.
وقد أحيل على التقاعد منتصف الأسبوع الماضي، لأنه تحدث لفضائية عربية عن واقعه الصعب، وعن راتبه الشهري الذي لا يتجاوز 500 دينار. هذا ما قاله بالحرف فعليا؛ فلم ينتقد الرجل قرارات تهميش المعلمين، أو موقف الوزارة ووزيرها منهم، وإنما عبر عن رأيه ومعاناته وأسباب لجوئه إلى عمل آخر لا صلة له بوظيفته الأساسية؛ فكل ذلك من أجل الحصول على بضعة دنانير تسهم في تعليم أبنائه السبعة.
ليس الرجل مسيسا، لكن قرار إحالته على التقاعد، والذي فقد بموجبه 40 % من راتبه، جاء ضمن قائمة ضمت تسعين معلما من "المسيسين"؛ بعضهم قياديون وناشطون في نقابة المعلمين، ومنخرطون في أحزاب يبدو أنها لا تحظى برضى الحكومة. وقد اعتقد عبابنة أنه يعبر عن رأيه وفقا لحقه الدستوري.
بعيدا عن الحريات والتعسف وحق التعبير عن الرأي وحديث السياسة الملتبس، يبرز سؤال اقتصادي وإنساني عن الفضاء الذي يمكن لمعلم يشعر بالاضطهاد وضنك العيش وقسوة الحياة، أن يصرخ فيه. وإذا كنا نريد إصلاحا في واقع حياة المعلمين وغيرهم من نخب المجتمع، وتحسينا للأحوال التي يكابدونها، فهل هذه هي الطريقة الصحيحة التي يجب أن نسلكها حتى نصل إلى بر الأمان؟ وبعيدا أيضا عن الردود الجاهزة والمعلبة بشأن الحق الحكومي في إحالة كل من مضى على خدمته 25 عاما إلى التقاعد، فإن الذهاب في مسار الإنكار هذا يعني أن تدير الدولة ظهرها لأبنائها، وأن تطالبهم بأن يكونوا معلمين برواتب شحيحة. وليس مسموحا لهم أن يعملوا في أنشطة اقتصادية أخرى، علاوة على قطع الطريق عليهم إن هم عبّروا عن مستوى حياتهم الاقتصادي!
كيف سيكون الأمر بحق عبابنة لو فتح -بعد سنوات التعب التي "أهدرها" في التعليم- ملفات أبناء المتنفذين الذين تصل رواتب بعضهم، وهم صغار السن، إلى عشرة أضعاف راتبه، بعد خبرة مهنية تفوق أعمار بعض هؤلاء الذي اخترقوا بيسر وسهولة حواجز هيئات ومؤسسات خصصت لأبناء "نخب" أوصلت الاقتصاد الأردني إلى ما وصل إليه اليوم؟
لن تقوم قائمة لأي اقتصاد ما لم تنظر الدولة، ومعها المجتمع، إلى المعلمين والتعليم باعتبارهما أدوات التغيير والتطوير التي تؤسس لمستقبل جيد. وسيكون تحسين واقع معيشة المعلمين سببا، بالضرورة، في خدمة التنشئة المطلوبة لسلامة ونجاح خطط المستقبل. أما التجاهل والنكايات واستعداء هذه الفئة، فلن يعود على البلاد بخير. ولن نعيد اكتشاف العجلة في هذا الشأن؛ فقد نجحت ماليزيا وسنغافورة وكل نمور آسيا، وقبلهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية، عندما مكنت المعلمين من مستويات اجتماعية واقتصادية، وحتى سياسية متميزة. فيما أخفقت الدول التي جعلت مهنة التعليم في ذيل المهن.
لك الله يا عبابنة.
(الغد 2015-08-25)