الفتاوى والدين والمناهج عموما في مرمى السهام

لم يحدث منذ عقود أن أصبح الدين، وكذلك الفتاوى والكتب والمناهج مستهدفة على هذا النحو العلني كما هي الحال خلال العامين الماضيين على وجه التحديد، بخاصة بعد صعود نجم تنظيم “داعش” إنْ في العراق أو سوريا أو عدد من الدول الأخرى، وما رافق ذلك من ممارسات، وجرت نسبتها للإسلام وللمناهج والكتب والفتاوى. خلال العامين الماضيين صدرت عشرات الدراسات والكتب، وعقدت مؤتمرات، وكتبت مقالات، وتحدث عشرات وربما مئات في ندوات تلفزيونية في هذا الشأن، وخاض في الأمر كل من هبّ ودب، ورأينا علمانيين ويساريين، وأحيانا غير مسلمين، يعلموننا أصول الدين الوسطي، ويحدثوننا عن تجديد الدين، وكذلك فعل قادة وسياسيون أيضا. وكان لافتا في السياق أن أكثر المؤتمرات واللقاءات التي عقدت في هذا الشأن كانت من نصيب إيران وحلفها، وكذلك مصر، وهو أمر ليس بلا دلالة لمن أراد التعمق في المشهد الراهن بكل تفاصيله وحيثياته وخلفياته. ما ينبغي قوله ابتداءً هو أن الحديث عن فوضى الفتاوى كما يسميها البعض، ومن ثم الرد عليها بحصر الفتوى في جهات معينة، ليس جديدا، فقد كانت هناك محاولات دائمة لفعل ذلك على مدار التاريخ، ولم تنشأ وزارات الأوقاف والإفتاء، ومناصب المفتين إلا لتحقيق هذا الهدف، وهو تدجين الدين بشكل عام، وجعله جزءا لا يتجزأ من السلطة السياسية، وصار الأمر أكثر وضوحا في الدولة الحديثة التي سيطرت على كل شؤون المجتمع، بما في ذلك الدين، لكن الإسلام، وبخاصة السنّي منه، وهو مذهب الغالبية الساحقة، ظل عصيا على الحشر في بوتقة واحدة، وظلت مراجع الناس مختلفة في شؤون دينهم، فمنهم من يأخذ بالرأي الرسمي، ومنهم من يعتمد مراجع أخرى، حتى إن المذاهب قد تلاشت عمليا لصالح الفقه المتعدد. قد يسمي ذلك البعض فوضى، لكن عكسها في وعي مَنْ يرفضونها لا يعني غير حشر الدين في إطار السلطة، وجعله خادما لها، وهنا تبرز المؤتمرات التي نتحدث عنها، وحكاية الخوارج التي صدّعوا بها رؤوس الناس، وحيث كان بالإمكان وصف أنصار زعيم عزل بانقلاب عسكري بأنهم خوارج، بينما الآخرون هم “أصحاب علي” بتعبير الشيخ عمر عبد الرحمن، المعتقل في أمريكا، بل وصلت الحال حد استخدام الوصف ضد أي أحد ينتقد الأنظمة في العلن. في الحالة الأخيرة تبرز حكاية تجديد الدين وتنظيم الفتوى في إطار من تشريع انقلاب عسكري من جهة، ومعه فرض الطاعة العمياء على المجتمع، وكذلك في إطار أوسع عنوانه تحجيم التدين في المجتمع بشكل تدريجي، وذلك انطلاقا من القناعة بأن التدين الحقيقي هو الحاضنة الشعبية لما يسمى الإسلام السياسي، وأي كلام آخر هو بلا معنى، لأن من وقفوا إلى جانب الانقلاب على حاكم شرعي هم آخر من يحق الهم الحديث في شؤون الدين في إطاره السياسي. في الحالة الإيرانية يبرز الأمر بشكل أكثر وضوحا، فهنا يهرب محافظو إيران من حقيقة أنهم هم المسؤولون عن هذا الحريق المذهبي في المنطقة، بدعمهم طائفية المالكي ودموية بشار، وجنون الحوثيين.. يهربون من ذلك إلى اتهام السلفية والوهابية، كأن هذه الأخيرة لم تظهر إلا في السنوات الأخيرة، وكأن كتبها وفتاواها قد اكتشفت قبل عامين أو أكثر قليلا. إنهم يريدون حشر العنف في قضية الأفكار، ويتجاهلون أن أتباعهم هم أول من استخدمه. ألم يكن المالكي الذي يستقبله المرشد الإيراني مسؤولا عن تفجير السفارة العراقية في بيروت العام 1981؟! ولا تسأل بعد ذلك عن هذه المليشيات التي تمارس القتل والتدمير والتهجير باسم المذهب، وباسم الحسين، وباسم الدفاع عن السيدة زينب. إنه عنف صنعته وتصنعه الظروف الموضوعية، والأفكار تأتي لاحقا لتمنحه المزيد من القوة والدافعية، وحين تنتهي الظروف، تكون المراجعات، وهو ما حدث في سيرة جماعات كثيرة، ليس آخرها “القاعدة” كم يتضح من أدبيات أسامة بن لادن ورسائله الأخيرة بعد الربيع العربي. ما من دين ولا أيديولوجيا أرضية، إلا ولها تفسيرات متشددة تُستخدم عند الحاجة، لكن العنف يبقى نتاج ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية، ومن هنا، يمكن القول، إن هذه الهجمة على الدين تحت ستار من تجديده لا هدف لها إلا جعله مطية للظلم وللعدوان، وأصحابها هم آخر من يحق لهم الحديث عن التجديد، لا سيما أنهم يحاربون الوسطية أكثر من التطرف في بعض الأحيان، ولا هدف لهم في النهاية إلا صناعة دين خامل بلا تأثير في حياة الناس، وهذا الأخير ما يلبث أن يتلاشى بمرور الوقت، وهو ما يريدونه في واقع الحال، انطلاقا مما ذكرنا سابقا من اعتقادهم بأن التدين الحقيقي هو الحاضنة الشعبية لما يسمى الإسلام السياسي الذي يطالب بالحرية والتعددية والمشاركة السياسية الحقيقية، والأخيرة هي الجرم الأكبر عند الأنظمة، أيا تكن أيديولوجيا من يطالبون بها.
(الدستور 2015-09-12)