باب المندب: نموذج لإهدار الثروة

للمرء أن يتخيل أن مضيقا بقيمة وحجم "باب المندب" في خليج عدن، كان يمكن أن يكون مصدرا للثروة وتحقيق الإيرادات للدولة اليمنية ومواطنيها، هذا لو حسنت إدارته وتمت حمايته بالشكل اللازم تاريخيا. لكن الممر العالمي انتهى إلى صورة أخرى مقلقة ومرعبة على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية.
نحو 25 ألف سفينة تمر سنويا من هذا المعبر الذي يربط البحر الأحمر بالقرن الأفريقي، بل والعالم كله. وإذا كان عشر التجارة العالمية أو اكثر يمر بمضيق باب المندب، فإن استمرار حركة السفن عبره، كما عبر مضيق هرمز، تعد ضرورة اقتصادية لا يمكن التعامل معها باستسهال.
تاريخيا، لم يقم نظام الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح الذي حكم البلاد لأكثر من ثلاثة عقود، بحماية هذه الثروة التي تكتنزها مياه المضيق؛ بل على العكس تماما. إذ كانت السلطة في عهده عرابة التهريب من خلال هذا المضيق، وشمل الأمر تهريب المهاجرين الأفارقة والسلاح والمخدرات والمشتقات النفطية، من اليمن إلى القرن الأفريقي وبالعكس، حتى اكتسب المضيق سمعة سيئة، جعلت منه خاصرة أمنية واقتصادية رخوة للغاية.
لا قوة بحرية يمنية تضمن أمن المضيق في السابق؛ فمجموع خفر السواحل بالكاد كان يصل إلى مستوى لواء. وإذا علمنا أن طول هذا الشريط البحري يمتد لأكثر من 250 كيلومترا، فإن تشكيلات متفرقة كهذه بأسلحة تقليدية ليس من بينها فرقاطات أو قوارب عسكرية ضخمة، يعني أن حفظ السيادة في المضيق وعلى أطرافه لم تكن في حسبان السلطة السابقة. في المقابل، تمكنت دول كبرى وأخرى إقليمية من فرض قوتها في محيط هذا الممر الدولي. فهناك قاعدة أميركية على مقربة من المضيق في جيبوتي، كما تحتفظ فرنسا بحضور قديم جديد على مشارف "باب المندب". وأيضا، عملت إسرائيل على تحقيق الهدف ذاته من خلال أثيوبيا ودول أفريقية أخرى، في حين تطل إيران برأسها العسكري من خلال مدمرات تقترب وتبتعد وفقا لحجم الهيمنة المطلوبة والتهديد الآني. وبقي العرب بعيدين عن كل هذا التزاحم الدولي حول مضيقهم الذي يفقد البحر الأحمر قيمته إن فقد هذا المضيق أمنه.
اليوم، وبعد خمسة أشهر من سيطرة مليشيات الحوثي وقوات الرئيس المخلوع على باب المندب، تبدو الصورة أكثر سوادا؛ إذ تم زرع الألغام في معظم المناطق المتاخمة للمضيق، ويتواصل تهريب السلاح والنفط والمخدرات، وقبلها تهريب البشر، في مشهد اقتصادي وأمني يعزز من ضعف وهزال المضيق لغايات مصلحية.
المأمول أن يسترد المضيق أمنه في أقرب وقت، وأن تتأسس له قوة عسكرية يمنية قادرة على حمايته. بغير ذلك، فإنه لن يكون ثروة اقتصادية ذات عائد، بل مسرحا بحريا لهيمنة غير العرب، وفي مقدمتهم إيران التي تتطلع لإحكام سيطرتها على منافذ بحرية حيوية يقف على رأسها "باب المندب".
التذرع دوما بأن لا ثروات اقتصادية حقيقية في أيدي العرب ليس صحيحا. إذ تكمن الإشكالية في إدارة الثروة وتكريس ما هو لازم لها من أجل أن تكون قصة للنجاح، بعيدا عن الفشل والفساد وترك الأمور المفصلية والاستراتيجية لمصالح القوى الدولية والإقليمية.
"باب المندب" نموذج لإهدار الثروة لا شبيه له في العالم. والفرصة متاحة من جديد في الفترة المقبلة للبناء على قاعدة إعادة الهيبة والقيمة الاقتصادية والأمنية لهذا الممر العالمي للتجارة.
(الغد 2015-09-15)