اذا صدأ الرأي أصقلته المشورة
بقلم:– استاذ القانون الدولي
تعد حرية الرأي والتعبير مقدمة أساسية لتشكيل شخصية الإنسان اجتماعياً وسياسياً، وهي المدخل الأساسي لتكوين قناعة ذاتية باتجاه فكري أو أخر أو تصديق معلومة أو تكذيبها، وهي أمر داخل الإنسان يتشكل باجتهاده الشخصي، ولهذا نصت المادة 6 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حق الإنسان في اعتناق الآراء دون مضايقة .
حرية الرأي والتعبير هي الحرية في التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق الكلام أو الكتابة أو عمل فني بدون رقابة أو قيود حكومية بشرط أن لا يمثل طريقة ومضمون الأفكار أو الآراء ما يمكن اعتباره خرقاً لقوانين وأعراف الدولة أو المجموعة التي سمحت بحرية التعبير، ويصاحب حرية الرأي والتعبير على الأغلب بعض أنواع الحقوق والحدود مثل حق حرية العبادة وحرية الصحافة وحرية التظاهرات السلمية.
ويعتبر هذا الحق والواجب مقدس لا يمكن مصادرته أو التضييق عليه، ومن يعمل على خلاف ذلك فانه يؤسس إلى الاستبداد والدكتاتورية، غير أنه لا يجب لأحد أن يتعسف في استخدام هذا الحق، كأن يتطاول أو يسب أو يسقط أو يحقر الآخرين بحجة ممارسة حقه في حرية التعبير.
وبذلك أصبحت مسألة حرية التعبير عن الرأي مثارَ جدل في العديد من الدول والمجتمعات، الأمر الذي دفع ببعضها لوضع معايير خاصة تمثل إطار عام للمساحة الممكنة في التعبير كما هو الحال في الولايات المتحدة -على سبيل المثال- التي وضعت المحكمة العليا فيها مقياساً لما يمكن اعتباره إساءة أو خرق لحدود حرية التعبير، ويسمى باختبار "ميلر" الذي بدأ العمل به في عام 1973 ويعتمد المقياس على ثلاثة مبادئ رئيسية وهي:
1- إذا كان غالبية الأشخاص في المجتمع يرون طريقة التعبير مقبولة.
2- إذا كانت طريقة إبداء الرأي لا تعارض القوانين الجنائية للولاية.
3- إذا كانت طريقة عرض الرأي يتحلى بصفات فنية أو أدبية جادة.
وأساس الحضارة الحديثة كانت مجموعة الحريات التي أعتقت البشرية من ظلام القرون الوسطى، وقيودها المانعة لممارسة الناس حرياتهم، ساد العلم والعقل، والقانون الذي لا يفرق في الحقوق بين حاكم ومحكوم، تحت ضربات الناس وحلمهم بمجتمع آخر، تم كسر القيود، التي فصلت المجتمع الحديث عن المجتمع القديم، لولا حرية التعبير، والاحتجاج، والتظاهر، لولا النقد للموروث والقائم لا بل إزاحته، لما كان العصر الحديث، حق التعبير تم انتزاعه بالقوة في سياق بناء مجتمع جديد، في مواجهة أنواع التخلف والقيود، أخذ المجتمع ينمو ويبني عمارته، وحرية الرأي و التعبير ترافق كل بناء جديد. واختلطت الحرية بالفوضى في لحظة تاريخية ما، ولكن قدرة البشر في السيطرة على تاريخهم وتوجيهه وضمان الأفضل، استطاعوا تقنين جوانب من الحرية ليس وفق منظور مصالح سلطة أو فئة خاصة، بل وفق الصالح العام بما يخدم جميع أفراد المجتمع، في سبيل صون حرية الأفراد والجماعات المختلفة، حتى لا يتم الانتقاص من حرية الأفراد.
وقضية حرية الرأي والتعبير من أهم وأعقد القضايا التي تشغل كل المجتمعات تنظيراً وتطبيقاً، فإذا كانت الحرية نزعة فطرية في البشر إلا أن الاتفاق حولها من الأمور التي تصنف على أنها من شبه المستحيلات، حيث يصعب إيجاد صيغة كونية موحدة لمفهوم الحرية بسبب الاختلاف بين الحضارات والثقافات، فما يعد من قبيل الحريات في مجتمع ما قد لا يعد كذلك في مجتمع آخر، ورغم تباين المجتمعات في النظرة لمفهوم حرية الرأي إلا أن كل مجتمع يقر بضرورة وجود ضوابط أو قيود لممارسة الحريات بأنواعها.
*تاريخ حرية التعبير:
ترجع بدايات المفهوم الحديث لحرية الرأي والتعبير إلى القرون الوسطى في المملكة المتحدة بعد الثورة التي أطاحت بالملك جيمس الثاني من إنكلترا عام 1688، ونصبت الملك وليام الثالث من إنكلترا والملكة ماري الثانية على العرش. وبعد سنة من هذا أصدر البرلمان البريطاني قانون "حرية الكلام في البرلمان". وبعد عقود من الصراع في فرنسا تم إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا عام 1789 عقب الثورة الفرنسية الذي نص على أن حرية الرأي والتعبير جزء أساسي من حقوق المواطن.. وكانت هناك محاولات في الولايات المتحدة في نفس الفترة الزمنية لجعل حرية الرأي والتعبير حقا أساسيا لكن الولايات المتحدة لم تفلح في تطبيق ما جاء في دستورها لعامي 1776 و 1778 من حق حرية الرأي والتعبير حيث حذف هذا البند في عام 1798 واعتبرت معارضة الحكومة الفدرالية جريمة يعاقب عليها القانون ولم تكن هناك مساواة في حقوق حرية التعبير بين السود والبيض.
ويعتبر الفيلسوف جون ستيوارت ميل، من أوائل من نادوا بحرية التعبير عن أي رأي مهما كان هذا الرأي غير أخلاقيا في نظر البعض حيث قال "إذا كان كل البشر يمتلكون رأيا واحدا وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأيا مخالفا فان إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة".
واقرت الجمعية العامة للامم المتحدة سنة 1948م الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي تضمن حق كل شخص بالتمتع بحرية الراي والتعبير، وتبنت في سنة 1966م العهد الدولي للحقوق المدينة والسياسية الذي يعكس ما نص عليه الاعلان العالمي لحقوق الانسان فاكدت الماد (19) منه على حق كل انسان في اعتناق الاراء دون ضايقة والتعبير عنها ونقلها للاخرين دونما اعتبار للحدود بالوسيلة التي يختارها.
واكد الميثاق الاوروبي لحقوق الانسان سنة 1950 على حرية الراي والتعبير وكذلك الميثاق الامريكي لحقوق الانسان سنة 1969 والميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب سنة 1979، والميثاق العربي لحقوق الانسان الذي اعتمد في القمة العربية السادسة عشرة سنة 2004. وفي سنة 1978م تبنت اليونسكو في وثيقة الاعلان بشأن المبادئ الاساسية الخاصة باسهام وسائل الاعلام في دعم السلام والتفاهم الدولي وتعزيز حقوق الانسان ومكافحة العنصرية والفصل العنصري والتحريض على الحرب والحق في حرية الراي والتعبير. اما في سنة 1995م تبنت مجموعة من المختصين في القانون الدولي وحقوق الانسان مبادئ "جوهانسبيرغ" حول الامن القومي وحرية التعبير والوصول الى المعلومات.
*مظاهر حرية الرأي والتعبير:-
يرتبط الحق في حرية الراي والتعبير ارتباطاً وثيقاً بحرية الاعلام بكافة اشكاله (الطباعة والنشر، الاعلام المرئي، المسموع، الالكتروني)، وحرية الوصول الى المعلومات وحرية المجتمع السلمي.
1- حرية الطبع والنشر: تعتبر الكتابة اولى الرسائل التي عرضها الانسان لصياغة ونقل افكاره، ثم ظهرت المطبوعة وانتشرت في العصر الحديث باشكال متعددة (الكتاب، الصحيفة، المجلة، النشر)، والمطبوعة الالكترونية. وكانت بدايات الاعتراف الرسمي بحرية الراي والتعبير طبقا لاعلان حقوق الانسان الفرنسي عام 1789م، تؤكد ان وسيلة ممارسة حرية الراي والتعبير للمواطن "ان يتكلم ويطبع بصورة حرة"، وارست الامم المتحدة حق حرية الاعلام الذي من اهم دعائمه وطرق ممارسته الكتابة والطباعة والنشر كحق من حقوق الانسان الاساسية.. كما وتعتبر الصحافة الدورية بانواعها اكثر الركائز تأثيراً في الراي العام كما انها احد اهم اسس وركائز المجتمع الديمقراطي.
2- حرية النشر الالكتروني: وهي من الحريات التي اخذت مكانها حديثاً نتيجة التطور الهائل لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والنفاذ لشبكة الانترنت، حيث اتاح الانترنت لكم هائل من المواطنين في العالم بالتعبير عن ارائهم ومواقفهم. واكد التزام دولة تونس الصادر عن القمة العالمية حول مجتمع المعلومات عام 2005م على ما ورد في اعلان المبادئ الذي اعتمدته القمة العالمية لمجتمع المعلومات عام 2003م بان حرية التعبير وحرية تدفق المعلومات والمعارف والافكار والعلم ضرورية لمجتمع الاعلام.
ويمكن الاسراع في هذه العملية بازالة الحواجز امام النفاذ الى المعلومات للجميع بشكل كامل وغير تمييزي وبكلفة معقولة وتشجيع النشر الالكتروني.
واكد الالتزام بضرورة المواجهة الفعالة للتحديات والتهديدات الناتجة عن استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لاغراض لا تتفق مع حفظ الامن والاستقرار الدوليين.
3- حرية الرأي في اطار المرئي والمسموع: ادى التطور في وسائل الاعلام ليشمل الاعلام المقروء والمرئي والمسموع وشمل ايضا التطور في حقوق الانسان وحرية الاعلام باشكاله كاداه للتعبير والنشر.
وتتمتع وسائل الاعلام المرئي والمسموع واهمها الاذاعة والتلفزيون بدور فعال في ممارسة الراي والتعبير كمنبر لبث الاخبار ونقل الاراء ومناقشتها على المستوى المحلي والعالمي.
4- حرية التجمع السلمي: وتشكل حقا من حقوق الانسان الاساسية التي قررها الاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948م كما اكد عليها المعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية حيث نصت المادة (21) " يكون الحق في التجمع السلمي معترفا به ولا يجوز ان يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق الا تلك التي تفرض طبقا للقانون، وتشكل تدابير ضرورية في مجتمع ديمقراطي لصيانة الامن القومي او السلامة العامة، او حماية الصحة العامة، او الاداب العامة، او حقوق الاخرين وحرياتهم".
والتجمع السلمي هو قدرة المواطنين على الالتقاء بشكل جماعي يهدف لعقد الاجتماعات العامة او المؤتمرات او المسيرات او الاعتصامات السلمية في اي مكان وزمان وبغض النظر عن الجهة المنظمة ليمارسوا ضغطا على السلطة التنفيذية بهدف التعبير عن مواقفهم.